مصادر التشريع الثلاثة: الإلهي والوضعي و.. الوضيع!

فتح مسؤول "السانديك" (جمعية سكان البناية) باب العمارة واتجه لسيارته، التفت فرأى فتحة في الجدار خلفه. توجه للعامل وسأله عن سبب تغيير التصميم فرد بأنه عامل ولا يعرف. في مساء الأحد صارت الفتحة باب دكان مصبوغا بالأحمر. تجري هذه التغييرات من هدم وفتح ليلاً ويومي السبت والأحد، ليقول موظف السلطة إنه كان في عطلة. توجه الرجل إلى صاحب المحل الجديد فرد بأنه أوجد بابا خلفيا ليصير له
2015-07-23

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
محمد العتيق-قطر

فتح مسؤول "السانديك" (جمعية سكان البناية) باب العمارة واتجه لسيارته، التفت فرأى فتحة في الجدار خلفه. توجه للعامل وسأله عن سبب تغيير التصميم فرد بأنه عامل ولا يعرف. في مساء الأحد صارت الفتحة باب دكان مصبوغا بالأحمر. تجري هذه التغييرات من هدم وفتح ليلاً ويومي السبت والأحد، ليقول موظف السلطة إنه كان في عطلة.
توجه الرجل إلى صاحب المحل الجديد فرد بأنه أوجد بابا خلفيا ليصير له دكانين، وهذا لن يضر أحدا. فقال له إنّ سكّان العمارة سيحتجون على ذلك. ابتسم صاحب الدكان ورد بأن السكان موافقون. سأل "السانديك" شعبه فنفوا الموافقة. وقد وقعوا عريضة تقول: "قام مالك دكان في العمارة بفتح باب خلفي لدكانه الذي يتوفر على باب كبير على الشارع. وبذلك خرق قانون نظام الملكية المشتركة المحدِّد لحقوق والتزامات الشركاء في العمارة. لقد قام المعني بالأمر بتغيير التصميم وخلق سابقة يمكن تقليدها. وهذا مضر ومزعج للسكان وسيؤدي إلى تراكم السلع في الأبواب، ويحرم الأطفال من فضاء صغير آمن للعب. لذلك نعترض نحن الموقعين أسفله على خرق قانون الملكية ونطالب بإرجاع الأمر إلى ما كان عليه".
أوصل "السانديك" نسخا من العريضة إلى مكتب باشا المنطقة (وهو موظف مسؤول عن دوائر كبيرة عدة وتقع مرتبته دون الوالي والعامل فوزير الداخلية) فوعده خيرا. بعد أسبوع، علّق صاحب الدكان لافتة. سيكون جيدا أن يفحص والي الدار البيضاء كمية شكاوى المنكر العقاري التي يتلقاها موظفوه.
غيّر "السانديك" وجهته، رفع دعوى مدنية مستعجلة ضد صاحب الدكان. لكن هذا مفيد للخصم الذي يريد أن تحكم المحكمة ضده بدفع غرامة مع إبقاء التغيير الذي أجراه. أي أن يفعل ما يريد ويدفع المال ليشرعن فعلته ويبطل الاعتراض عليه. رجع "السانديك" لمكتب الباشا ليطلب تطبيق القانون، وأضاف أن "القانون عادل ونطالب بتطبيقه. ومن عارض ذلك فهو يشرِّع قانونا على مقاسه، خطر أن يشرع كل فرد لحسابه الخاص".
في دروب الإدارات التقى "السانديك" بزملاء لهم الشكاوى نفسها ويدورون في حلقة مفرغة. مع الزمن، تراخى الدعم من شعب العمارة وصار "السانديك" عاجزا. ومع العجز يتعرض للشماتة لأنه غبي وَثق بالقانون، وجاهل بما يجري على الأرض. يجهل أن الرشوة مصدر أساسي للتشريع الفردي في المجال العقاري. وهكذا صار لنا مصدر تشريع ثلاثي: إلهي ووضعي ووضيع.
فشل القانون في حماية حقوق السكان فمن سيتصدى للمنكَر العقاري؟ حينها يفتح المجال للعراك. حينها يتلاشى العقد الاجتماعي الذي يتخلى الأفراد بموجبه عن حقهم الطبيعي في الدفاع عن النفس بعضلاتهم لتقوم الدولة بذلك. لكن حين تتهاون مؤسسات الدولة يستعيد الفرد حقه بيده. في حالات كثيرة جرى عراك بالأيدي. حينها تندلع حرب الكل ضد الكل.. حين لا تتدخل الدولة ينتشر اليأس من العدالة. يشعر شعب العمارة بالإهانة المترتبة عن الإفلات من العقاب. وهذا إحساس راسخ في تاريخ المغرب ويمتد فعله إلى اليوم. عادة يميز المغاربة بين بلاد المخزن وبلاد السيبة، الأولى فيها سلطة والثانية أرض سائبة تشرع فيها القوة والمال.
حين يرى الناس مفعول الرشوة يكفرون بالقانون. حين يلاحظون أن رجال السلطة يتغاضون عن تطبيق القانون، يطرحون تفسيرا واحدا: "أكلوا". يرددون مثالا دسما "من وُضع الإدام في يده لا يرميه". حين يرى المواطن حقه يباع لغيره علنا سيدرك أن الرشوة هي الحل. هكذا تصير الرشوة مصدرا للتشريع، ويبدو أن من يدفع أكثر يحصل على ما يريد، حينها ينمحي الحق في المجال العام.
الرشوة عنف شديد، وهي تحظى بنظرة مزدوجة ولها آثار مدمرة على العلاقات الاجتماعية. عادة يُنظر للرشوة الخفيفة كسلوك للحصول بسرعة على وثيقة، ويقدِّم المواطن المغربي الرشوة وفي اعتباره تسريع خدمته ومساعدة الموظف الذي لا يحصل على أجر يكفيه. وهناك رشوة ثقيلة تتسبب في تغيير تصميم عقاري وخلق محل تجاري وسط المساكن، يجعل الإهانة دائمة وتتجدد كل صباح.
ولذلك نتائج. تدمر الرشوة إحساس الأفراد بالأمن الاجتماعي، وترسخ بدل العقد الاجتماعي قاعدة أن كل شيء مباح لمن يدفع ويطبق "شرع يده". تدمر الرشوة العلاقة بين الدولة والمواطن الذي لا ينتظر منها شيئا.
إليكم تتمة هذه القصة: لقد فهم شعب العمارة نهج الباشا. ذهب صاحب الدكان إلى الباشا وقال له أريد توسيع نافذة غرفة ابني لتصير بابا لأحولها إلى صالون حلاقة. حصل الباشا على هدية سمينة وقال له اذهب واكسر الجدار. بعد شهرين جاء "السانديك" يشتكي من تحويل غرفة إلى دكان حلاقة، يتجمع حوله شبان بحلاقات غريبة ويزعجون الجيران. حصل الباشا على هدية صغيرة ووعد بالحضور غدا صباحا برفقة القوة العمومية لإغلاق الباب وإرجاع الوضع إلى ما كان عليه.
شعر "السانديك" بالفخر بعد أن اشترى حقه. لم يستطع النوم من فرط الفرح. سيعود السلام. مرت أيام وما عاد أحد يذهب إلى الباشا. لقد حصل على هدية من الجلاد ومن الضحية. وعمليا، تمر الأيام وتظهر دكاكين جديدة وشكاوى جديدة.. يستخدم الباشا سياسة الردع بالإحباط، يستقبل المعترضين يستمع إليهم بأدب، يوافق على صحة وصدق ومعقولية ووجاهة كلامهم، ويعدهم "بإرجاع الوضع إلى حاله". يفرحون. تمضي الأيام ويستمر الوضع المفروض. لا يفعل الباشا شيئا، فيشعر المعترضون بالإحباط واللاجدوى فلا يرجعون إليه. يلعب الباشا على الزمن، يدرك أن إرادة المعترضين ستخبو ويقبلون الأمر الواقع. هكذا تبدأ العشوائية وتتمدد وتنتشر بفعل التقادم.
في الدار البيضاء، تبدأ الفوضى من إدارة المكان حيث يشيع المنكَر العقاري، حتى أنه يصعب السير مئة متر في مكان متجانس. هناك لا تناسق منفِّر يتم التعايش معه. تنتقل فوضى المكان إلى العلاقات والسلوكيات، فالمكان يفرض قانونه. يصير خرق القانون هو الأصل ويبدو كل من يتحدث عن القانون غبيا يستحق الشفقة بل الاحتقار.. من أين تنبع هذه اللامبالاة في خرق القانون؟ من اليأس من العدالة. كيف تسمح الدولة لمواطنيها باليأس من العدالة؟ 


وسوم: العدد 153

للكاتب نفسه