ستجري الانتخابات الجماعية (البلدية والمحلية) في المغرب يوم الرابع من أيلول/سبتمبر المقبل. خصص أحد عشر يوما لإيداع الترشيحات وبعدها تبدأ الحملة الانتخابية ثم التصويت. وقبل الوصول للنهر لقطعه أو الغرق فيه، تجري أنشطة كبيرة تحضيرا للاستحقاق الانتخابي الذي يجري في ظل دستور 2011، نتاج الربيع العربي / الأمازيغي. الدستور خفض عدد جهات (محافظات) المغرب من 16 إلى 12، وزاد من اختصاصات المنتخِبين، وأوصل حزب العدالة والتنمية الإسلامي للحكومة. ويُنظر لهذه الانتخابات كاختبار للحزب وخصومه. وهذا ما يجعل الرهان كبيرا.
يبلغ عدد المسجلين في اللوائح الانتخابية أربعة عشر مليون ناخب. 45 في المئة منهم نساء. و44 في المئة منهم سنهم بين 25 و44 عاماً. و44 في المئة من الناخبين المسجلين يقطنون في العالم القروي على الرغم من أن نسبتهم من ساكنة المغرب هي 33 في المئة. وكل هؤلاء الناخبين مدعوون لانتخاب 31503 أعضاء من بين 130925 مرشحا للبلديات والجماعات المحلية، والأخيرة بحسب وزارة الداخلية، عبارة عن وحدة ترابية يتم تعيين حدودها الجغرافية بدقة طبقا لاعتبارات تاريخية سوسيو ـ قبلية واقتصادية ومؤسساتية، أو سعياً لتحقيق تعاون وتكامل بين مكونات المنطقة.
هذه معلومات حسابية ضعيفة دراميا. لذا، فالدراما تكمن في سلوك المرشحين من طرف 36 حزباً، بعضها خرج من بَياته الشتوي في آب /أغسطس الحالي. فلكي يضع وكلاء اللوائح ملفات التصريح بالترشيح بمقر المحافظات، لا بد من التزكية. فمن يترشح وكيف ولماذا؟
تتوالى على الجرائد المغربية أخبار مثل: قيادي بارز في حزب فلاني يلتحق بالحزب (الآخر) الفلاني، استقالة جماعية من الحزب الفلاني للالتحاق بالحزب (الآخر) الفلاني، فُلان يحصل على تزكية الحزب الفلاني بعد فشله في الحصول على تزكية حزبه.
يتم التسابق على التزكيات والعين على حزبين رئيسيين متنافسين، وهما "حزب العدالة والتنمية" الإسلامي الحاكم و "حزب الأصالة والمعاصَرة" الذي فاز بالانتخابات المهنية بينما اعتبر قيادي في العدالة والتنمية نتائج انتخابات الغرف لا علاقة لها بالجماعات، وغير ذات دلالة سياسية. طبعا كل حزب يخسر انتخابات يزعم أنها غير ذات دلالة سياسية. يبدو أنها انتخابات ذات دلالة خُبْزية.
هذا هو السر. التزكية التي تزيد من منسوب الدراما السياسية. والدراما خليط من التراجيديا والكوميديا. ويزيد التشويق عند تحديد من سيكون على رأس اللائحة الانتخابية. وما هي الفضائل الانتخابية التي يعرضها المرشح على زبائنه السياسيين؟
هناك المعايير، كتابية وشفوية. وهذا مدخل يسمح بمقاربة الكثير من الظواهر في المجتمع. حسب المعايير الكتابية، فإنه مطلوب تزكية المرشح الذي يتوفر على الكفاءة والجدية والتجربة والمصداقية والنزاهة والقرب من المواطنين، ويجب أن يكون له مشروع وجرأة ليطرق الأبواب ويقنع الناس به.
والأصل أن كل حزب يزكّي مناضليه. وتنص الأدبيات الحزبية المكتوبة على اتباع "المسطرة" (القاعدة) القانونية في الترشيحات، ومن بنود هذه المسطرة الأقدمية في الحزب. ويجب أن تكون طريقة اختيار المرشحين علنية.
حين تفشل هذه المسطرة يسافر قياديون حزبيون من الرباط إلى مناطق نائية للوساطة والاسترضاء، ولاحتواء النزاعات في فروع الحزب لأنه حتى حين يتم حل مشكل التزكية، يظهر مشكل الترتيب. فالصراع على المراتب الأولى في اللوائح شرس. ولهذا تزداد النزاعات التي تفكِّك الأحزاب. ومن الحلول المبتكرة أنه في بعض الأحزاب قدمت القيادة لوائح من دون إعلانها لتلافي الصراعات، أو احتفظت بها حتى اليوم الأخير من المهلة لمنع الخصوم من المناورة، ولتحقيق الصدمة والدهشة.
يشتد النزاع لأن معايير اختيار رأس اللائحة غير واضحة. ويحصل أن يشترط مرشح انضمامه لحزب ما بجعله الأول في اللائحة لينجح. وهذا شرط فيه رائحة صفقة. تسري أخبار عن شراء التزكيات، بل كتبت الصحف أن شخصا دفع 350 ألف دولار ليقترحه حزبه وزيرا في الحكومة الحالية، وقد حقق له الثمن الأمنية.
وهنا ننتقل من الشروط الكتابية إلى الشفوية للتزكية. ومنها الدفع المسبق. ومنها ثانيا إظهار الولاء ونية البقاء مع زعيم الحزب الذي يعطي الأسبقية لأنصاره على حساب المحتمل رحيلهم الى أحزاب أخرى. ثالثا على المرشح المزكّى إظهار التواضع، فالطموح السياسي الشديد خطِر. لذا لن يحصل على التزكية من يحتمل أن يتجاوز في تباهيه أو صفاته الذين زكوه. كل منافس محتمل يُركن في زاوية مظلمة مبكرا. رابعا عليه أن يتوفر فيه معيار الفعالية الهجومية الانتخابية وبناء عليها ينتقي زعيم الحزب اللاعبين الذي سيكتسب بهم المباراة الانتخابية. لا جدوى من تزكية المحتمل فشلهم. لا بد من اللياقة البدنية الانتخابية. وتتأسس هذه اللياقة والفاعلية على المال والجاه. والثاني ابن الأول الذي يمكنه أن يشتريه.
يسمي المغاربة الذي يمارس في مجال لا يعرفه ولكن يملك المال بأنه "مول الشكارة"، أي حامل حقيبة ممتلئة بالفلوس. وهذا هو النجم الانتخابي الأول. لكن الفلوس لا تتقدم عارية، بل تتلون بصفات المجتمع.. وتعتبر الانتخابات زينة الحياة السياسية. وهناك أحزاب تخشى أن يكون مصدر الإنفاق هو المخدرات، وهي الأعلى ربحاً ومن يربح فيها لا يهمه كم سينفق لتبييض سيرته وشرعنة اسمه بكرسي. لنشرح بواسطة البرهان: حين يترشح شخص فقير يبدو للناس كأنه أبله أو مجنون. أما الجاه فهو نتيجة لعائلة عريقة أو موقع قبلي وتراكم ثروة، ويعرِّف ابن خلدون في مقدمته الجاه: "هو القدرة الحاملة للبشر على التصرف في من تحت أيديهم من أبناء جنسهم"، وينطبق هذا على أصحاب المشاريع وشبكات تبادل المصالح والذين يستطيعون تحريك الناخبين لمصلحتهم. المشكل أن أصحاب الجاه شبعوا ويستغنون عن الانتخابات.
في ظل هذا الوضع، يخشى الحزب ألا يقدم مرشحين في كل الدوائر فيظهر وكأنه حزب صغير عاجز. لذا يقبل الكائنات الانتخابية ويزكيها. وفي المعجم زَكّاه أي شهد له بالصلاح. وزكّى فلانٌ أموالَه أي نمّاها. وزَكّى نَفْسَهُ: مَدَحَها وَنَسَبَها إلى الطُّهْرِ. وأن يزكي كل فرد نفسه فهذا جار به العمل. لكن أن يزكي حزب ما شخصا ارتحل إليه البارحة فهذا يحتاج إلى تفسير. فكيف يشهد له وبالكاد التحق به؟
يهدف ممارسو "الترحال السياسي" ـ وهذه الاستعارة مستخدمة في الصحافة المغربية - للتموقع حيث كعكة أفضل. يجري الآن ترحال نحو الأحزاب المشاركة في الحكومة على فرض أنها ستربح الانتخابات القادمة. وهذه الأحزاب وغيرها تستقطب الأعيان لتزكيهم، وهم يرفون شعار "حزبي حيث التزكية"، وهم يغيرون أحزابهم ويغيرون دوائرهم الانتخابية كما يغيرون جواربهم، والمهم هو رأس اللائحة. وهم يبتزون القيادة الحزبية باستمرار، وهذا يجعل الحزب ضعيفا هشا..
وعادة ما يهجو الرحل أحزابهم السابقة هجواً انتقامياً ويمدحون أحزابهم الجديدة. وفي ذلك الهجاء ينشرون الغسيل فيفرح الصحافيون إذ تتوفر لهم يومياً مادة درامية ضخمة للنشر، وهذا جانب كوميدي في المنافسة. أما الجانب التراجيدي فهو أن هذه التزكيات الفورية تعيد تشكيل المشهد الحزبي وتقتل روح التحزب لأنه بالنظر لسلوك المرشح الوافد والحزب المستقبِل يتضح أن وعيين انتهازيين قد تآلفا.