عيد حداثي!

رن الهاتف الذكي مذكرا بالموعد. حينها دخل عيد الأضحى ذهن الرجل، قبل الذبح بعشرين ساعة. هكذا تضمن التكنولوجيا أن يبقى بال الرجل خاليا لاستخدام الانتباه لمسائل ذات عائد نقدي. فور سماع الرنين، ذهب الرجل الأربعيني إلى سوبرماركت في حي فخم بالدار البيضاء، حي مبهج لا يشبه الأحياء الشعبية التي غزتها الاكباش والماعز والبقر... حي مغربي له اسم أميركي. هنا توجد مواقف كافية للسيارات والأرض مبلطة جيدا ولا
2015-10-01

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
حسن حجاج - المغرب

رن الهاتف الذكي مذكرا بالموعد. حينها دخل عيد الأضحى ذهن الرجل، قبل الذبح بعشرين ساعة. هكذا تضمن التكنولوجيا أن يبقى بال الرجل خاليا لاستخدام الانتباه لمسائل ذات عائد نقدي. فور سماع الرنين، ذهب الرجل الأربعيني إلى سوبرماركت في حي فخم بالدار البيضاء، حي مبهج لا يشبه الأحياء الشعبية التي غزتها الاكباش والماعز والبقر... حي مغربي له اسم أميركي. هنا توجد مواقف كافية للسيارات والأرض مبلطة جيدا ولا مكان للحفر والغبار والتبن والفحم، ولا مكان لرائحة عرق الفقراء.. مكان نظيف جدا، وفيه حصل مرشح حزب العدالة والتنمية الإسلامي على ثمانين صوتا بينما حصل خصمه "الليبرالي" على المرتبة الثانية بخمسة عشر صوتا.
اشترى الرجل أكبر كبش بالكيلوغرام. الأرقام لا تترك شيئا للصدفة. صوَّر الكبش بكاميرا هاتفه مع التركيز على القرنين الأملحين. هذا وصف تقريبي سمعه الرجل في التلفزيون وليس في المسجد. فوراً أخبر الزوجة بأنه اشترى كبش العيد بكفاءة عالية، من دون تبذير في الوقت مع الحصول على أكبر كمية من اللحم مقابل أربعمئة وخمسين دولارا. هنأته الزوجة على الإنجاز، أي عدم تضييع الوقت في التنقل بين الأسواق بحثا عن الأرخص. الوقت أهم من النقود.
في البيت تفحصت البنتان بفرح الكبش في الفيديو على الهاتف. علقتا على قرني الكبش وثدييه. ضحك الرجل ولم يشعر بعار إنجاب البنات. هذا أمر يقلق الزوجة لسبب غير معلن، وبسبب معلن هو الشيخوخة والإرث الذي يحتاج ذكرا لحفظه.. تتصل الزوجة بمحل الحلويات وتطلب ما لذ وطاب. هكذا يجري تحضير العيد على الهاتف.
تسأل البنتان الرجل: هل لمس الكبش؟ فينفي ذلك بل ويسخر من الذين يمسكون بذيل الكبش لمعرفة نسبة الشحم فيه. وشرح الرجل للبنتين أن الميزان معيار عقلاني فعّال لمعرفة قيمة الكبش دون لمسه أو حمله. هكذا لم تنتقل رائحة الروث إلى يديه وإلى الصالون.. هكذا يتم استخدام التكنولوجيا لنقل المعرفة ولحل المشاكل. لا يليق أن تكون في ثياب الحداثي رائحة رعاة الغنم والماعز..
صباح العيد رن الهاتف. جاء صاحب سيارة نقل البضائع بالكبش والجزار معا. في سطح العمارة المقسّم بالتساوي بين السكان، تمّ الذبح والسلخ بسرعة، والتخلص فورا من بطانة الكبش ومعدته ورأسه وأمعائه. دفع الرجل لصاحب السيارة وللجزار بسخاء لأنهم نابوا عنه بوضع أيديهم في القذارة. بقي اللحم والكبد فقط ولم يلمس الرجل الحداثي كبشه بعد. في الأحياء الشعبية يلطخون أيديهم بالدم ويأكلون تلك الفضلات.
هنا، في الحي المغربي ذي الاسم الأميركي، تغيّر العيد، صار خفيفا ظريفا بالنسبة لأصحاب الذوق الرفيع.. صحيح أن الرجل الحداثي يعيش عيده في غربة عن الكتلة الاجتماعية ذات الأغلبية العددية، لكن حتى الذين يلعنون هذه الغربة يتمنون امتلاك الموارد لعيشها. الحداثة مكلفة.
صباح العيد، تمت صلة الرحم تكنولوجيا. يشعر الرحم ببرودة الاتصال وسرعته. انتهى تبادل الزيارات وتقديم قطع كبد للجيران. انتهى زمن لا بد أن يذوق فيه الجيران من خراف بعضهم. العيد يعني الأسرة الصغيرة فقط والفرد مهتم برفاهيته إلى أقصى حد، وبعدها قد يفكر في العائلة الكبيرة. الآن الله للجميع والخروف لنا. وقد سمح للبنتين بقطع هبرة من فخذ الكبش لشيّها. في هذا الحي يسمح للأطفال بقطع اللحم من الكبش يوم العيد بينما في الأحياء الشعبية لابد من انتظار أربع وعشرين ساعة على الأقل وربما اثنتين وسبعين ساعة في البوادي لحين الانتهاء من الفضلات...
تم تحضير الشواء بسرعة على الشواية الكهربائية لا على الفحم الأسود. عندما كان الرجل يمضغ الهبرة كان الملك محمد السادس يذبح كبشه على التلفزيون.. نادرون من كانوا يذبحون قبل الحسن الثاني ويفعلون ذلك سرا، لكن الآن انتهت إجبارية تماثل وتطابق الدولة والشعب. يشاهد الرجل موت مئات الحجاج في تدافع المؤمنين. من نجوا من سجود الرافعة قتلتهم جمرات الشيطان. لا يفكر الرجل في الحج ويفضل زيارة باريس. تغيرت النظرة إلى ما يجري، جرى القطع مع القيود التقليدية مثل القبيلة والأسرة والجيران، واستبدالها بالأصدقاء والزبائن.. حتى يوم العيد يقوم الرجل ببعض المهام التجارية على هاتفه. الحداثي لا يضيع وقته، حتى يوم العيد. والحداثة نمط تفكير. فاكتساب الثروة لا وقت له والنقود تجعل الحياة أفضل وأسهل.
يتحقق هذا لأن الرجل أجير بدخل عال، وهو مثل باقي سكان الحي لا يواجه مشاكل مادية إلا في الكماليات النوعية. تبدد لديه حماس العيد وصار الذبح عبئا وتضييعا للوقت.
يُعرِّف هايدغر الحداثة بأنها طفرة في تأويل العالم. في تأويل الرجل لممارساته يعتبر بأنه قد احتفظ بالتقاليد الأساسية للعيد وهي الكبش والشواء، ولو الكهربائي.
الكهرباء غالية؟ صح. لكن الفحم الرخيص قذر. المال هو عصب النظافة التامة. العيد الحداثي هو عيد برجوازي مكلف. الحداثة مكلفة.
جرى الشّي والأكل في البلكونة الواسعة. هكذا تضمن الزوجة نظافة الصالون الشاملة والأبدية. وفيه سيجري اللقاء مع الأشباه والشبيهات. هنا ستستقبل صديقاتها بناء على موعد مسبق محدد، وهي حريصة على القطع مع الأصول الفلاحية للعائلة.
في بداية الزواج، يأتي الأقارب من ذوي الأصول الفلاحية في أي وقت إلى البيت. لدى الفلاحين فائض من الزمن. الكرم لا يعني أن يأتي شخص في أي وقت ويجلس الوقت الذي يريد. يصعب أن تشرح لفلاح من العائلة فوائد الانضباط بالزمن في الزيارة بموعد. سيغضب وينسحب. والغضب سلوك عاطفي لا عقلاني ولا حداثي.
عادة بعد الغذاء الخفيف سيخرج أفراد الأسرة الحداثية لقضاء الأمسية في السينما والكورنيش.. لكن في لحظات الوحدة ينتاب الزوجة حنين لتقاليد حياة الحقول، لذلك ستزور أمها في الحي الشعبي بينما يأخذ الرجل بنتيه للسينما. لكن الأم تخطط لإعادة توجيه بنتيها بعد سن السادسة عشرة لتتناسبا مع الذهنية الحداثية على مستوى الشكل وتخضعان لقواعد المجتمع ليسهل تزويجهما. يقال إن البنت التي يربيها أبوها كصديقة له لا تصلح زوجة لأنها لم تتعود القمع. الأم معنية بزواج بنتيها وليس بنظريات جان جاك روسو.
في الطريق لمنزل الجدة تلاحظ البنتان أن أحياء الدار البيضاء لا تتشابه. فهناك فيلات وعمارات جميلة وعمارات حالكة ومساكن شعبية يكثر نشر الملابس على نوافذها.. حي الجدة لا يشبه الحي ذا الاسم الأميركي... في بعض الأحياء ذبح السكان أكباشهم في الشارع حفاظا على نظافة منازلهم.. لذا فإن على جوانب الطريق تتشكل مزابل صغيرة متناثرة من التبن والفحم والقرون قبل أن تهجم شاحنات النظافة على المدينة لتخليصها من زبالتها.. 

للكاتب نفسه