الواحدة بعد الظهر في مطعم على خط التماس بين المدينة الحديثة والقروسطية في الرباط، يتزايد الزحام على الطاولات... مطعم في المدينة القديمة وبابه متوجّه للمدينة الجديدة، فضاءان منفصلان لكل واحد منطقه. للمطعم ميزات كثيرة، فبالإضافة لعامل القرب، يوفّر متعة الأكل علناً بسعر معقول. يأتيه الموظفون في العمارات المقابلة للغذاء وتحسين العلاقات الشخصية، هنا ينسون تشنج العمل. أحسن هدية للتصالح في الثقافة المغربية هي دعوة لوجبة، والعلامة البصرية الأبرز للتحالف أو التواطؤ هي الأكل معاً.
يقطع الموظفون شارع الحسن الثاني فينتقلون من الإدارات والشركات إلى المطاعم الشعبية والعشوائية ومحلات بيع العصائر والوجبات الخفيفة.
للمطعم تصميم متميّز معزّز بصور عملاقة فيها الكثير من اللون الأحمر شديد الجاذبية. سلاطات بألوان مختلفة في علب بلاستيكية. حمرة البيتزا والهامبرغر وصفرة البطاطس المقليّة تظهر كبيرة في الكاتالوغ وهي صغيرة في الصحون. ويكتشف الزبائن طعم الوجبات بأنوفهم.. يستقبلهم نُدّل أنيقون شبّان.
يفضل المغاربة حضور النادل لطاولتهم بدلاً من الطريقة الأميركية في الذهاب للشباك للدفع المسبق وجلب الصحون. يريد المغربي أن يُخدَم وهو جالس. في المطعم خمسة ندّل رجال، وقد قسموا الطاولات لتحديد المسؤوليات. النساء جالسات والرجال يخدمونهن. كل نادل لديه عدد من الطاولات وعليه إظهار البراعة في الإمساك بالزبون والسرعة في خدمته ومراقبته إلى أن يدفع، ثم يجري تنظيف الطاولة بسرعة الضوء لاستقبال زبون جديد. لتحقيق هذا هناك ندّل لا يرمشون ولا يقفون ولا ينسون ولا يخطئون، يخدمون الزبائن. كل نادل يشارك في ماراتون بين أربع نقاط، هي طاولة الزبون والفرن والمحاسب وزاوية غسل الأواني، حيث يرجع الصحون الوسخة.
على طاولة الزبون، يسجل الطلب بمستوى عالٍ من اللباقة والتواصل. هنا يمتدح الكثيرون الحمية والطعام النباتي، لكن حين يتسلمون القائمة لا يرون إلا اللحم.. يضع النادل أمام كل زبون عبوات بلاستيكية للحلو والمرّ والحامض. لابد من تكثير التوابل لطمس تغير طعم اللحم بعد تخزينه طويلاً في الثلاجة. هكذا يُصنع الطّعم الذي سيضمن عودة الزبون للمطعم.
يُحرّر النادل الطلب ويعلنه للمحاسب والطباخ ثم يعود للترحيب بزبائن جدد. يوجّههم نحو المغسلة وهي قرب سلم طابق تحت أرضي، يخرج هواء ساخن من الأفران التي تعمل هناك، حيث توجد جهنم البيتزا التي تلفح وجوه الطباخين...
يستمر مارتون النادل، يتسابق مع الزمن ومع الأفواه. يقع توتر بين الثانية والرابعة بعد الظهر، يحتجّ الزبون على النادل فيجيبه "طلبك فوق النار". النار في الفرن المكشوف تلهب اللحم المفروم. هنا يشاهد الزبائن طبخ ما سيأكلون ليطمئنوا. حين يفرم اللحم لا يعرف الزبون هل يأكل عضلات أو شحماً أم أمعاء. يسمح اللحم المفروم ببيع العجل أو النعجة كاملة. تَروج إشاعات عن مطاعم تستخدم لحم الحمير، يزعم ابن سيرين في تفسير الأحلام "أن مَن حلم بذبح حمارة وأكل لحمها سيجد مالاً وسيعيش في سعَة".
يجلب النادل الأكل ويدفع بالصحون الفارغة إلى زاوية ضيقة تقف فيها امرأة تغسل مئات الصحون في متر مربع.
يتابع النادل مسيرته في السلسلة التايلورية في الطبخ لتوفير الطعم والسرعة والسخونة. الجميع يحبون الهمبرغر ساخناً... ولا بد من السرعة للحفاظ على السخونة. ومع السرعة يشتدّ الضغط. لا بد من الانتقال بسرعة لأن الرابض خلف الآلة الحاسبة بعين الصقر يبحث عن أي تهاون أو تقصير أو تأخير.. لا بدّ من رفع الإيقاع لأن الناس كانوا يذهبون للمطاعم مرة في السنة وصاروا يأكلون خارج البيت كل أسبوع. يحب الشباب الوجبات غير التقليدية، وصارت النساء موظفات والمطاعم تطبخ بدلاً منهن. هكذا تُحرِّر المطاعم البشر من عبودية المطبخ وتحقق لهم أمنية "كُلّ وانطلِق". ولكي ينطلق الزبون بسرعة يجب أن يعمل النادل والطباخ كثيراً. المطعم مبهج بالنسبة للزبون لأن الأكل فيه جاهز، لكنه بالنسبة للنادل إنهاك بدنيّ رهيب. يقطع النادل كيلومترات عدة يومياً داخل المطعم.
ومع ذلك لا يظهر مشاعر الغضب ويشبه وجهه ابتسامة كبيرة مرسومة على جدار... يحق للنادل إظهار الغضب تجاه زملائه ولا يحق له إظهار الغضب للزبائن. لديه وجهان.
حين تصير الطاولات كلها مشغولة، يستريح النادل بضع ثوانِ، قد يطرد بعض المتسولين الجياع وقد يتأمل كل زبون يلتهم ما في صحنه. وهذا مخالف لعادة المغاربة الذين يأكلون جماعياً في قصعة ولا يأكلون اللحم والخضر دفعة واحدة. فلا بد من قسم اللحم بعد إنهاء الكسكس والخضر، ويتولى الأكبر سناً القيام بقسمة عادلة. وغالباً ما تعطي الأم أفضل قطعة لابنها الأكبر، ويقبل الآخرون هذه العدالة...
حتى في المطاعم، تكثر هذه العدالة المائلة. يكفي أن يقارن الفرد بين ما في صحنه وما في صحون الآخرين ليشعر بالفخر أو الاضطهاد. بإلقاء نظرة على قائمة الطعام، يظهر بأن الوجبات الأغلى هي التي تشمل اللحم، وكلما زاد اللحم زاد الثمن. لا يتأثر ثمن اللحم بإشاعات هي بمرتبة تقارير طبية تزعم أن اللحم يسبب السرطان. شكك الرجال في ذلك لأنه لا فحولة من دون لحم. وهذه نظرية بديهية صحيحة ومجربة أكثر من كل نظريات نيوتن وأنشتاين. فالشواء مصدر فحولة.
كل عام تزيد الأسعار لأن الأفواه تتزايد وقطع اللحم تتناقص. لذلك تنتشر وجبة البانيني التي تكثر فيها عجائن نيئة تشبع الزبائن بسرعة. لا يستوي مَن يأكل اللحم بمَن يأكل البانيني. هذه المقارنة الذاتية عنف نفسي. صحيح، لقد تراجع العنف المادي في العلاقات الاجتماعية وحلّت محله مقارنات ماركات الملابس والهواتف... وقد بيّن عالم الاقتصاد الهندي أمارتيا سِن بأن وقوع المجاعات لا علاقة له بفقدان مادة الطعام، وإنما بعجز الفقراء عن الحصول عليه بسبب غلاء أسعاره وتدنّي دخولهم.
طبعاً مَن لم يشبع لن يفكر. يبلغ وزن العقل اثنين في المئة من الجسم، ويستهلك عشرين في المئة من الطاقة.
ينصح الحكماء بالتفكير على المدى البعيد، على مدى خمسين سنة. لكن الجوع يُذكّر الفرد باللحظة مرات عدة في اليوم. لذا ننتقل من سوسيولوجيا القبيلة والمدينة إلى سوسيولوجيا المطبخ.. لا يتوهّم السوسيولوجي البصاص بأن الكتابة عن الأكل أقل شرفاً من الكتابة عن الانتخابات، وهو يقفز ويطلب من الصحافيين تعديل سلم أولوياتهم. فلم يمت أي شعب بسبب قلة الانتخابات. الأكل مهم. للوجبات دور كبير في تقوية رُكب الأفراد. يُحكى عن انهزام جنود الرومان الصائمين أمام جنود هانيبال الذين تناولوا وجبة شهية.. كل الأنشطة الإنسانية ظرفية باستثناء الأكل والنوم. يمكن تأجيل المطالعة وتأجيل الانتخابات وتأجيل انتخاب رئيس.. لكن لا يمكن تأجيل وجبة. الأكل أهم من الديموقراطية. والحاكم الذي يوفر الأكل أفضل من القيادي الديموقراطي الذي يغرق شعبه في الخطابة.. وقد جاءت هيلال إيلفر، المقررة الأممية الخاصة بالحق في التغذية إلى المغرب وطالبت بتوزيع عادل للثروات.. تحلم.
وفي حلم آخر، طالبت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو) بتوفير 67 مليار دولار سنوياً شريطة أن يُتاح معظم الدعم في إطار برامج الحماية الاجتماعية، وهي أداة حاسمة للجهود الرامية لاجتثاث الجوع.
تتحدث "الفاو" عن "الدعم في إطار الحماية الاجتماعية"، في تجاهل ساذج لحقيقة اقتصادية وهي أنه إذا حصل الفقراء على الأكل مجاناً، فلن يعملوا وسيخرب اقتصاد العالم! روح التعاون تقتل السوق، تقتل التنافس. يمكن لمنطق السوق أن يكتسح المنظمات الدولية، ولكن لا حظوظ بأن يخترق منطق الجمعيات الخيرية قانون السوق...
تتأكد هذه الحقيقة حين يدفع الزبون ثمن الوجبة والخدمة، وقد يدفع "بقشيشاً" لمكافأة النادل الخدوم جداً...