الرباط جنة البيروقراطيين

للرباط قلبان يفصل بينهما سور يمتد لعدة كيلومترات لا يزيد عرضه عن خمسين سنتمترا وعلوه على أربعة أمتار.. وعمره ألف عام. سور يفصل المدينة الحديثة عن المدينة العتيقة. في السور أبواب تحمل أسماء الاتجاهات والقبائل التي تؤدي إليها. في باطن السوق مدينة قديمة، بها سوق شعبي وممرات ضيقة فيها بازارات ومحالت لبيع الملابس والوجبات ومنتجات الصناعة التقليدية. يخفي السور زحاما فظيعا في السكن.. وبعد الزحام تظهر
2015-12-10

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
تصوير: أكرم هادي - المغرب "أحد أحياء الرباط"

للرباط قلبان يفصل بينهما سور يمتد لعدة كيلومترات لا يزيد عرضه عن خمسين سنتمترا وعلوه على أربعة أمتار.. وعمره ألف عام. سور يفصل المدينة الحديثة عن المدينة العتيقة. في السور أبواب تحمل أسماء الاتجاهات والقبائل التي تؤدي إليها. في باطن السوق مدينة قديمة، بها سوق شعبي وممرات ضيقة فيها بازارات ومحالت لبيع الملابس والوجبات ومنتجات الصناعة التقليدية. يخفي السور زحاما فظيعا في السكن.. وبعد الزحام تظهر قصبة الوداية بين نهر أبي رقراق والمحيط الأطلسي. تقع الرباط القروسطية بين النهر والبحر. تربض قصبة الوداية على هضبة هي نقطة لقاء النهر والبحر. تجاور المدينة المحيط على امتداد عشرة كيلومترات.
من يقف في شرفة فندق مقابل السور يحصل على المشهد في لقطة واحدة. يرى القصبة والبحر والجسور والقناطر فوق النهر. قناطر تعبرها السيارات والترامواي. وتستخدم الكثير من القنوات الفضائية الإخبارية الموقع الخلاب كخلفية لمراسليها من الرباط. لا يصدق الكثيرون أن يكون المشهد من عاصمة عربية.
يفصل السور تناقض زمني وتناقض معماري. في المدينة القروسطية منازل من طابق أو طابقين على الأكثر بينما نجد في المدينة الحديثة عمارات تتجاوز عشرة طوابق ويمكن منها رؤية المدينة العتيقة من فوق دفعة واحدة.
يترافق السور وشارع الحسن الثاني، وهو البرزخ بين الأصالة والمعاصرة. فيه تقع نقطة لقاء المدينة القديمة والجديدة. عبور الشارع هو الانتقال من فضاء إلى آخر ومن سعر إلى آخر. يتبدل سعر الأكل على بعد مئة متر. تتعايش المطاعم مع جيوب الموظفين كلما تعمقوا في المدينة القديمة. في الزحام يقل ثمن الوجبات. يأكل الموظفون في الحي القديم ويرجعون لمقاهي الحي الجديد في شارع محمد الخامس للحديث عن المغرب العميق والبعيد بثقة.. وجهل فادح.
يزيد عرض شارع محمد الخامس عن ستين مترا، وهو محاط بطراز معماري كولونيالي صار مفخرة. بجانب الشارع برلمان موقر وبنك مبني بالحجر السميك ومحطة قطار رخامية وهي تحفة معمارية. الرباط مدينة عريقة راكمت منشآت كثيرة، مدينة مصونة، لم تعش حربا ولا تفجيرات منذ عشرات السنين. للمزيد من الصيانة نرى في كل مكان ثلاثة جنود مسلحين يتجولون، يحملون على ذراعهم شارة "حذر". وهناك حاجز بوليسي في المدخلين الشمالي والجنوبي للمدينة. وبيروقراطية الرباط الأمنية مزهوة حاليا بإنقاذ فرنسا من خلية "سان دوني".
لا بد لكل زائر للرباط جاء لقضاء مصلحة إدارية في حي حسان، من زيارة هذا الشارع. من فرط الضغط على منطقة حسان شمال الرباط هناك مصالح إدارية في شوارع مغلقة أو يمنع وقوف السيارات فيها، ما يحول الحياة إلى جحيم. يتبين - من خلال التجوال في شوارع المدينة وإحصاء المؤسسات - حجم وزن البيروقراطية والجيش في النظام المغربي. لذلك فالرباط مدينة آمنة خاصة في المناطق الأكثر إضاءة. مناطق الفقراء أقل إضاءة لأنهم ينامون مبكرا حين لا يجدون ما ينفقونه.. الإنفاق ليلا أقسى من الإنفاق نهارا.
جنوب الرباط، هناك أحياء فيلات فيها خضرة شديدة ممتدة على مساحات هائلة، فيلات كالقلاع مكسوة بالحجر. هناك فيلات تمتد على سبعمئة متر، يسكنها شخصان أو ثلاثة. لا ينجب الأغنياء كثيرا لأنهم يخصصون وقتهم لأنفسهم بدل رعاية الأطفال. يعيش أبناء الأغنياء في رحابة حقيقية. وفي النهاية هناك ثلاثة آلاف شخص يسكنون حيا يمتد على مليون متر مربع. لذا تجد سكونا شديدا بين الفيلات (لا يُحتسب الحراس والخدم ضمن السكان لأنه تخصص لهم جحور لقضاء الليل في كشك قرب باب الفيلا أو غرفة في الطابق تحت الأرضي). يوهم هدوء المكان ألاّ شيء يجري في الرباط، لكن هنا تتخذ القرارات في مصير مناطق المغرب الأخرى.
بعد الانتهاء من الإجراءات الإدارية في حي حسان يمر الزائر بشارع محمد الخامس ويقف أمام البرلمان ويتذكر آخر انتخابات. يشكو الزائر من "مسلمي الرباط" لأنهم يدققون كثيرا في الإجراءات، وهذه وظيفة البيروقراطية. وتتم السخرية من هؤلاء البيروقراطيين بدافع من الغضب والحقد الطبقي بأن قمصانهم نظيفة مكوية ولكن جيوبهم فارغة وقد أنهكتهم الكمبيالات.
للرباط نغمة لا توجد في باقي المدن المغربية بسبب كثرة مظاهر حضور الدولة. الشوارع نظيفة، لا يخطر ببال الأطفال إلقاء الأوساخ بشوارع الرباط لأنها مكنوسة بعناية. يُنظر لساكن الرباط كمديني حقيقي. والرباط هي مدينة البيروقراطية، يكثر واضعو ربطات العنق في الشوارع والمقاهي. تكثر سيارات الدولة التي تحمل على لوحاتها حرف الميم بالأحمر "المغرب". كل سيارة تحمل حرفا أحمر يسميها المغاربة سيارة المخزن. هنا يكثر كذلك مرتدو بذلات عسكرية مختلفة الألوان من الجيش والشرطة والدرك والحرس الملكي وقوات مكافحة الشغب، وهي عماد استقرار الدولة.
"البيروقراطية الرباطية" هي عشرات آلاف الموظفين بمختلف الرتب والامتيازات، والذين يتوفرون على الأقل على سكن مجانا وسيارة مجانا وبنزين مجانا وهاتف ذكي بمكالمات غير محدودة مجانا.. أي من ميزانية الدولة. يليق بمن لديه هذا أن يتفنّن في كي قميصه وربطة عنقه وهو عضو في من يسمون "الناس الألَبة" لأنهم يملكون الألباب واللب. وهو عضو في بيروقراطية تشكل طبقة وسطى غير مستقلة عن الدولة. يشعر هؤلاء الناس الألبة بأن جهاز الدولة ملك لهم حصرياً.. لحلْبه. توجد مناصب كافية للرجال المهيمنين، حتى أن القصر يعين أشخاصا في مناصب أكبر من حجمهم، فلا تناسبهم السيارة الفاخرة وربطة العنق الحريرية.
جاء في فيلم "أنا كارنينا" - 2012 المقتبس عن رواية تولستوي - أن البيروقراطية هي روح روسيا والفِلاحة هي معدتها. تشغِّل الدولة المغربية مليون موظف وتضع رهن إشارتهم 115 ألف سيارة نصفها في العاصمة. يقال إن من اشترى سيارة كأنه تزوج امرأة ثانية. وإلى هذا تمكّن البيروقراطية حسب ماكس فيبر من احتكار الموارد وتوزيعها بفضل منظومة يدعمها القانون. يملك "الناس الألبة" اللب والألباب وتبقى القشرة للآخرين.
وهم يجمعون غلال البيروقراطية. ويزيد فساد البيروقراطية من رفاهية الناس الألبة، ويمكن لبعضهم شراء عقار لتأجيره أو تمويل مشروع تجاري لزيادة الدخل، وللاستجمام على حساب الدولة. فلكل وزارة نادٍ اجتماعي فاخر، مثل نادي وزارات التجهيز والمالية. هنا تقدم وجبات لمئة شخص بينما هي تكفي مئتي شخص. وقد حضر السوسيولوجي البصاص (حفظه الله!) إحدى الوجبات بالصدفة، وعاين كمية الإدام في الصحون. إدام يفسر كيف أن الكثير من البيروقراطيين قد ضمرت مؤخراتهم من طول الالتصاق بالكراسي وبرزت بطونهم.

للكاتب نفسه