أسكتْ لكي لا تصير أضحوكة

ما أمتع الإمساك بالميكروفون لأطول وقت أمام جمهور مُصغٍ. ما أحلى أن تكون لك الكلمة - اللوغوس. ما أحلى أن تتحدث حتى تشبع في محاضرة أو ندوة أو برنامج تلفزيوني. لكن هل لديك ما تقول؟ طبعا، وتعتقد أن الآخرين ليس لديهم ما يقولونه. وهذا وصف لمداخلاتهم من خلال وقائع متكررة بعد أن كثرت الندوات والورشات والقنوات والإذاعات وشاعت الميكروفونات وشاعت معها التفاهة والسفاهة.. هناك مدير جلسة يتحدث
2016-02-18

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
قيس سلمان - سوريا

ما أمتع الإمساك بالميكروفون لأطول وقت أمام جمهور مُصغٍ. ما أحلى أن تكون لك الكلمة - اللوغوس. ما أحلى أن تتحدث حتى تشبع في محاضرة أو ندوة أو برنامج تلفزيوني. لكن هل لديك ما تقول؟
طبعا، وتعتقد أن الآخرين ليس لديهم ما يقولونه. وهذا وصف لمداخلاتهم من خلال وقائع متكررة بعد أن كثرت الندوات والورشات والقنوات والإذاعات وشاعت الميكروفونات وشاعت معها التفاهة والسفاهة..
هناك مدير جلسة يتحدث أكثر من المتدخلين، لم يحضّر أرضية ما يريد قوله ويردد "لن أطيل" ثم يستطرد، لعله يقنص فكرة لم يجلبها معه. متدخل يثرثر لأنه لم يكتب مداخلته، ويرتجل لأنه مغرور. إن أسكته يشتكي من القمع والإقصاء وإن تركته باسم الديمقراطية ضيّع الوقت. يكرر ست مرات "نقطة أخيرة وأختم". هذا علاوة على أنه يتذكر في الختام ما كان عليه قوله قبل تسلّق المنصة والالتصاق بالميكروفون. كلامه إنشائي لا يساعد المتلقي على تشكيل رأي خاص به، لأنه يتحدث من المنطقة الرمادية. حين تطلب منه موقفا واضحا يعتبر أنك استنطقته بطريقة بوليسية ويجرّك للدرجة الصفر من الجدل.. وقد حصل هذا لبرلمانيين ووزراء مغاربة، وصار بعضهم أضحوكة ولم يتكلم ثانية.
حين يكون الميكروفون في يد من لا يملك خطابا فإنه يردد الرأي البدائي، يخبر بما هو معلوم. يبرهن على دلالة شكل الرمل، يردد فكرة لا تصمد للنقد. متدخل آخر بعيد عن عرض الوقائع وتحليلها وتفسيرها، يلجأ للمماحكة، لشخصنة الصراع، للشتم بدل طرح أسئلة جوهرية.
يحدث هذا لناقد سينمائي يعد بتحليل أداء عمر الشريف فيحكي عن عدد مرات زواجه، ويحدث لوزير اللف في الهواء دون أرقام وتواريخ، متحدثا عن تهديد النملة للفيل وعن مشاريع عملاقة للنهوض بالبلد ستنفذ في غضون عام أو قرن. والغريب أن الصحافة المؤيدة للحكومة تجد في كلام معاليه دررا وفصوصا من الحِكَم. يسترخي المتدخل كما في المرحاض في مداخلات دون غلاف زمني مضبوط مسبقا، ويرفض تنبيهات مدير النقاش في التلفزيون أو البرلمان أو المهرجان أو الجامعة.. يحتكر "اللوغوس" ويجهل أنّه يستحيل الحفاظ على انتباه الجمهور في مداخلة تزيد عن ربع ساعة، كما بيّن دستويفسكي في رواية "الممسوسون". والنتيجة ثرثرة مزمنة تدمر الروح عبر الأذن.. تجعل المتلقي يردد قول هيراقليطس "أواه من أولئك الذين لا يعرفون كيف ينصتون أو كيف يتحدثون".
يعاني الجمهور من محاضِر يستسهل الكلام بالمجان، حين يقرأ يُضجر وحين يرتجل يخرج عن الموضوع، فيبدو غير متمكن من موضوعه ينجرف مع خطابة فضفاضة إنشائية.. يفتقد المعطيات فيعتمد لغة واعظ يتصنع التقوى، يقول ما يتمناه، وهذا لا حدود له، يعتبر توقعاته معطيات. قال باحث في مركز دراسات بأن التساقطات المطرية خلال الموسم الفلاحي الحالي "تبقى استثنائية، وهناك احتمال كبير بألا يتم تحقيقها خلال السنة المقبلة".. يتوقع حتى في الطقس على بعد عام. يضع التخمين ووجهة النظر في نفس مستوى الحقائق والمعطيات. تهيمن عليه النوايا الحسنة والحُبيّة وإنشاء الله والخير قادم.. ومتأثراً بمعجم الصحافة الصفراء ومعلقي كرة القدم، يستخدم لغة واصفة فقيرة، يروج مفاهيم فضفاضة، يختلق مفاهيم لا جذور لها في تربة المعرفة. يتحدث خارج مجال اهتمام مستمعيه. يفتقر لسلطة المثال، لم يؤصل ملاحظاته حتى يفهم المتلقي أين ومتى وكم.
لا جواب لدى المحلل الثرثار وهو قارئ فنجان. تسأله عما يجري فيشرح لك ما ينبغي أن يجري. يقرأ الفنجان في الميكروفون.. فيرسم صورة مثالية مضللة للوضع. لم يقرأ قول هنري برغسون بأن "اللغة تشترط أن نضع بين أفكارنا تلك التمييزات الواضحة والدقيقة نفسها، وكذا الانقطاع نفسه الذي يحدث بين الأشياء المادية". يجب أن تكون الأفكار واضحة كما الأمكنة. متدخلنا يعتمد على حدسه الطيب ويعتبر أنه لا توجد فوارق بين توحيد ألمانيا وتوحيد اليمن السعيد.
حاليا الخطاب الشفوي الرسمي الأكثر حضورا في الحياة الاجتماعية هو الفتاوى وخطب الجمعة، وفيه يتحدث الخطيب عن كيف ينبغي أن يكون المؤمن المثالي. وباستمرار، تقع انزلاقات تتسبب في فتن. آخر مثال: فسر خطيب جمعة وقوع زلزال خفيف شمال المغرب بفسق سكان المنطقة. وقد قامت وزارة الأوقاف بتوقيف ذاك الخطيب.
كثيرون لا يتم توقيفهم في الندوات لأن مدير الجلسة حريص على صورته كديمقراطي يتجنب قمع من يثرثر.
يستمد المحلل الثرثار شرعيته من غروره أو من شهادته الجامعية، يريد أن ينظِّر دون أن يكون مطلعا. لا يطالع ولا يخلو بنفسه ساعة ليفكر ويريد أن يحلل. النتيجة أنه انطباعي جدا، يتكلم كثيرا ويجعل الفهم عسيرا، ينهك المتلقي بالبحث عن منطق في خطابه.
هنا يصير الخطاب عائقا ابستيمولوجيا. من لم يفهم أولا لن يشرح لغيره بعد ذلك.
المأساة هي حين يكون المتدخل سياسيا متحزبا، يصير الإصغاء له محنة. يطرح أسئلة مباشرة وليس أسئلة إشكالية. واضح عدم تطابق كلماته وحركات وجهه ويديه. يبدو أنه يحفظ ما يقول أكثر مما يفهمه. يسهل تذكيره بتناقضاته، وحين يقع الفرد في التناقض بين سلوكه وقوله يكون قد سحق نفسه في النقاش العمومي. يصير يساوي صفرا.
هذا نموذج لاستسهال اللوغوس، وهي كلمة يونانية تعني في ما تعنيه الخطاب المبدئي والعقل. ويعرف الكتاب المدرسي في الثانوية المغربية اللوغوس بأنه مجال التعبير والقول والخطاب، مجال الاستدلال والحجة والعلم، مجال النظام والمبدأ والعلة الجوهرية. هذه قواعد بعيدة عن القص واللصق والارتجال في الخطاب السائد حاليا. الكتابة والخطابة ليستا فعلا تلقائيا. إنتاج الخطاب لا يخضع للحظ والقُبول والصدفة. مطلوب مفاهيم. مطلوب تحليل، مطلوب استدلال من محاضر لم يعلِّمه الله الأسماء كلها. لا تفكير حقيقيا من دون مفاهيم والمفاهيم في التحليل نظير الأوزان لدى بائع الذهب. يستند التحليل إلى معلومات تفصيلية وليس الى نوايا تشيع الوهم..
كيف وصلنا إلى هنا؟
بسبب التطفل واحتقار المُتلقي. بسبب منح الكلمة للصاحب المضمون في ما سيقوله. لا يهم المضمون بل تهم العلاقات العامة، لذلك يكرر "نقطة أخيرة وسأختم"، ويلتصق بالميكروفون أكثر، يريد أن يتكلم ليلمع. لكن كلما تكلم كشف نفسه. كثيرون يعتقدون أن المداخلات والمقالات التي تُعدّ في نصف ساعة ودون توثيق وتدقيق ستشُد المستمعين وستفيدهم. أضغاث أحلام.
الميكروفون سلاح ذو حدين، وعلى من لم يتعود إنتاج خطاب أن يتواضع ويتجنب الحديث طويلا كي لا يذبح نفسه بلسانه.. لكي لا يصير أضحوكة.

مقالات من المغرب

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

للكاتب نفسه