مونولوج حزبي ليس للنشر

يتابع المغاربة نقاشات السياسيين الحامية في التلفزيون وفي البرلمان، ينتقد بعضهم بعضاً بشراسة. وبعد الجلسات والبرامج تلتقط الكاميرات صورا للسياسيين أنفسهم يتبادلون النكات ويمسك بعضهم بأيدي بعض. لا يفهم المغاربة هذا التحول ويصفونه بالنفاق. والحقيقة أن هؤلاء السياسيين يميزون بحدة بين خطاب يقال بينما الكاميرا تعمل، وفيه النيات والأماني، وخطاب يكشف العرف السياسي السائد الذي يسلم به الجميع ولا يجرؤ
2016-03-31

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
خالد تكريتي - سوريا

يتابع المغاربة نقاشات السياسيين الحامية في التلفزيون وفي البرلمان، ينتقد بعضهم بعضاً بشراسة. وبعد الجلسات والبرامج تلتقط الكاميرات صورا للسياسيين أنفسهم يتبادلون النكات ويمسك بعضهم بأيدي بعض. لا يفهم المغاربة هذا التحول ويصفونه بالنفاق. والحقيقة أن هؤلاء السياسيين يميزون بحدة بين خطاب يقال بينما الكاميرا تعمل، وفيه النيات والأماني، وخطاب يكشف العرف السياسي السائد الذي يسلم به الجميع ولا يجرؤ من يجلس أمام الكاميرا على شرحه.
.. طلبتُ من مناضلين قدامى إسقاط الأقنعة والقيام بنقد ذاتي لا يقدم أمام الكاميرات. ماذا يقول الحزبي في طويته؟
إليكم مونولوج شخصي ليس للنشر، يكشف فيه المتحزب نفسه. يسمّي الأشياء خاصته بدون أقنعة وبدون لغة خشبية. هنا الخلاصة التي ركّبت من أجوبة كثيرة بعد حذف مئات الجمل الخشبية:
قال: الأصل في الأشياء أن مهمة الحزب هي خدمة المصلحة العامة. لكن الأحزاب هي مجرد "كراكيز" (جمع كراكوز) في المشهد. الخطير أن قادة الكثير من الأحزاب يعرفون هذه الحقيقة وهم راضون وما يعينهم هو الحفاظ على مواقعهم، ولا يهزمهم إلا الموت. نحن نتحدث كثيراً عن الديموقراطية وننظّر للاختلاف. لكن لدينا استهانة رهيبة بالزميل وبالحزب الآخر مهما كان نوعه. لم يكن هناك نشاط ثقافي أو إعلامي كبير لدى الأحزاب الموالية للسلطة لذا احتقرناها. كنا معجبين باللافتات ذات المطالب الكبيرة. كنا ضحية عدم الإنصات للذات، كان لدينها استهجان هائل للذات، قفزنا على الذات باسم الموضوعية التاريخية. كان ذلك وهماً. ما الوهم؟ كنا نعتقد أن حزبنا قوة سياسية كاسحة. كنا نظن أن السلطة غبية لكن اكتشفنا أن لديها من يفكر لها. كانت السلطة أقوى منا، كانت براغماتية تؤمن بالمصلحة. لم نعترف قط أن السلطة أقوى منا. قط، رغم أن الوقائع كانت واضحة. أنظر كيف جمعت السلطة ثلاثة ملايين مغربي للمشاركة في مسيرة ضد بان كي مون في آذار/ مارس 2016. كانت السلطة تستخدم الكوتا (المحاصصة) كوسيلة للعدالة الاجتماعية من منظورها. كانت كراهيتنا للسلطة أهم من فهمها.
الأصل في الأشياء هو التحديث، لكن هزمتنا ثقافة الفقهاء. علّمونا ثقافة الموت لا ثقافة الحياة. كنا مثل الفقهاء نعتبر آراءنا بمثابة معلومات. عندما نفشل نختم بجملة "ما شاء الله". هكذا تتبدد المسؤولية والمحاسبة. وثوقيتنا الشديدة كانت للتغطية على الفراغ. عندما يقارع اليقين اليقين يتحقق الانحطاط. من يفكر دون جغرافيا منقطع عن الواقع. قرأنا ماركس معرباً عن مجتمع أوروبي لذا لم نصل قط لتحليل ملموس للواقع الملموس. كنا نخجل من نمط الإنتاج الآسيوي.
يستعيد المناضل الحزبي المتعب محطات بعيدة:
يعترف أنه لم يعد يجد نفسه في العقيدة القويمة (الأرثوذوكسية) للحزب. يتذكر تورطه في التسطيح: كنت استشهد بغرامشي بحماس، وكان الحزب اقرب للقبيلة والزاوية.
ما معنى التسطيح؟ الدفاع عن مواقف غير سليمة بصوت مرتفع وتقديم حجج تبسيطية.
طيب، قل لنا:
كم أنتم أيها المتحزبون؟ واحد في المئة من الشعب. أحزابكم كثيرة وضوضاؤكم كثير وعددكم قليل إذاً. صحيح، لأن غير الشعب غير مسيس فمع من سنمارس السياسة؟ مع البوليس؟
طيب، قل لنا: هل نظام الكوتا (المحاصصة) ديموقراطي؟ لا طبعا. هل سبق لك واستفدت من الكوتا؟
"كلنا استفدنا".
ذكرته بشرطي ـ لا تستخدم ضمير المتكلم الجمع ـ بل ضمير المتكلم المفرد. للإشارة، المحاصصة مستمرة. وقد صدم الكثيرون من دفاع البرلماني الشاب عن معاشات البرلمانيين. وقد وصل للبرلمان بالمحاصصة، أي بلائحة خاصة بالشباب. منذ سنوات تظهر في الأحزاب حركات تصحيحية شبابية بشكل دوري. وبما أنها تظهر قبيل الانتخابات، فإنها تريد زيادة نصيبها في المحاصصة وليس تغيير قواعد اللعبة. يخشى اليساريون النقد الذاتي، ويخشاه الإسلاميون. توقع كثيرون أن تقوم شبيبة جماعة العدل والإحسان بنقد ذاتي بعد وفاة الشيخ عبد السلام ياسين نهاية 2012. لكن الصمت يهيمن.
يتضح من الحوارات أنه يستحيل أن يقوم السياسي بنقد ذاتي، وإن فعل فبعد تقاعده. حينها يطلق عدد من المزاعم التي تعيده للضوء. حين يقدم بعض الملاحظات النقدية يكون مطمئناً أن سامعه لن ينشرها أو على الأقل لن ينسبها له. في بدايته، قرر هذا السياسي النضال لتغيير الواقع، ومع الزمن غيّره الواقع. ما أصعب تمرين نقد ذاتي لمتحزب مدمن على نقد السلطة. ما أحلى النقد التبريري، وهو اتهام الواقع، أما النقد الذاتي فجحيم بلا قاع.
يكره المناضل السابق ـ والتعريف قاسٍ ـ من يذكّره بالمقارنات، من يذكره بضرورة النقد الذاتي. اتصلت برفيق لسؤاله عن النقد فرفض الجواب لأن الهاتف مراقَب. يتوهم أن السلطة ما زالت تعتبره خطرا وتراقبه.. حين التقينا في مكان لن يتصنت عليه فيه أحد قال:
كل فكر خارج تاريخنا وجغرافيتنا كارثة. مرة أفكر مشرقياً ومرة أفكر غربياً، ولم احسم ولم أفكر قط مغربياً. كان المغرب هو الثالث المرفوع. في مقر العمل، كان هناك نصف يتحدث عن قناة الجزيرة والنصف الآخر يتحدث عن إذاعة فرنسا الدولية ويعرف كل وزراء فرنسا. كنت منبهراً بالشعر العربي والسوبر ماركت الفرنسي..
أضاف:
تحدثنا كثيرا وقررنا مبادئ وشعارات ثم اتضح أن تلك الشعارات بعيدة عن الواقع. الحقيقة أن كثيراً من الأحزاب المغربية هي تجمعات لأنصار ملك يسود ويحكم. حزب ديموقراطي يرى أن إرادة الأمة يعبّر عنها الملك وليس البرلمان. يستوي اليمين واليسار في هذا، لذا لا جدوى من رسم الحدود بين اليمين واليسار في المشهد المغربي. بما أن الملك يحكم مجتمع القبائل والزوايا، فلا جدوى من الدفاع عن الحزب بمعجم اللبرالية السياسي. ليس المهم هو اليمين واليسار، بل ألا يفوز الإسلاميون. حالياً كل حداثي صادق سيعتبر أي مقاومة لصد سيطرة الإسلاميين المتشددين على المغرب عملاً وطنياً وبطولياً يستحق كل تضحية، حتى لو كانت بالديموقراطية. مصلحة الدولة القومية في سلامتها أولا. ثم نرى الديموقراطية.
هذه هي الحقيقة المغربية. كنت واثقا أنهم نادرون من يستطيعون قبول تغيير جذري في عاداتهم الغذائية، لكن الكثيرين واثقون أن التغيير الجذري في السياسة ممكن وغداً. هذا وهم. من لا يغير عاداته الصغيرة أبدا لن يغير الوضع في بلده.
كنت مؤدلجاً، لا محللاً. كانت أفكاري قفطانا ألبسته للواقع المغربي، وبدل تغيير أفكاري غيرت تصوري للواقع. كنت مؤدلجاً، وكانت تلك أيديولوجيا مهزومة.
هل تجلد ذاتك؟
بالنظر لما وصلنا، نعم.
صمت طويلا وفجأة وبلا مقدمات: افتخر، كنت مناضلاً في زمن الخوف. وعندما قلّ الخوف كثر المناضلون منذ تسعينيات القرن الماضي.

للكاتب نفسه