الدار البيضاء: العشوائيات أفضل للفقراء!

هنا بيع الخراف، هنا «فندق الخروف»، تبن، فحم، بصل، سكاكين ووسائل شواء اللحم، بين سوق وفندق مزبلة... وقرب كل مزبلة كتابات تحذيرية على الجدران، هكذا: «النظافة من الامان»، «لترمي الأزبل هنا»، «ممنوع البول هونا وشكرا».في جل أحياء المدينة، وخاصة في الضواحي، أقام أصحاب الخراف متاجر ونصبوا خياما، يبيعون سلعهم. ولأن الشقق صغيرة، فإن البائعين
2013-10-23

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
| en
إحدى عشوائيات الدار البيضاء (من الانترنت)

هنا بيع الخراف، هنا «فندق الخروف»، تبن، فحم، بصل، سكاكين ووسائل شواء اللحم، بين سوق وفندق مزبلة... وقرب كل مزبلة كتابات تحذيرية على الجدران، هكذا: «النظافة من الامان»، «لترمي الأزبل هنا»، «ممنوع البول هونا وشكرا».
في جل أحياء المدينة، وخاصة في الضواحي، أقام أصحاب الخراف متاجر ونصبوا خياما، يبيعون سلعهم. ولأن الشقق صغيرة، فإن البائعين يقترحون على الزبائن رعاية الخروف حتى صبيحة العيد. لذلك كتبوا على الخيمة الوسخة «فندق الخروف خمسة نجوم». وهذا دليل قاطع على أهمية اللحم في المجتمع. في عيد الفطر يكتفي الأقارب بتبادل تهاني هاتفية. أما في عيد الأضحى فالزيارة للتذوق واجبة.
تحظى القرابين السمينة بالتقدير. وللترفيه عن الخراف والعجول المشتراة يقوم حارس الفندق بإخراجها من الخيمة للتجول قليلا في الصباح الباكر. ولكم أن تتخيلوا المشهد بعد الذبح... هكذا يتلاشى «الوجه الحضري» للمدينة ويهيمن عليها «أسلوب حياة» بدوي.
غضب الملك محمد السادس، وتحدث عن الدار البيضاء من منصة البرلمان في افتتاح الدورة التشريعية الجديدة يوم 11-10-2013. قال الملك إنه يقوم بجولات تفقدية لمختلف أحياء المدينة منذ 1999 للوقوف على أوضاعها، وهذا ما استنتجه:
« فالدار البيضاء هي مدينة التفاوتات الاجتماعية الصارخة، حيث تتعايش الفئات الغنية مع الطبقات الفقيرة. وهي مدينة الأبراج العالية وأحياء الصفيح. وهي مركز المال والأعمال والبؤس والبطالة وغيرها، فضلا عن النفايات والأوساخ التي تلوث بياضها وتشوه سمعتها».
وختم الملك بسؤال استنكاري «لكن لماذا لا تعرف هذه المدينة، التي هي من أغنى مدن المغرب، التقدم الملموس الذي يتطلع إليه البيضاويون والبيضاويات على غرار العديد من المدن الأخرى؟».
فرح «البيضاويون» لأن أفضل الحلول هي التي تتبع غضب الملك. أعلن عمدة المدينة حربا فورية على الزبالة. وفي انتظار النتائج، فما الذي أوصل الدار البيضاء لهذا الوضع البائس؟
على صعيد التدبير المحلي، لم تعرف عمادة المدينة قط أغلبية حزبية منسجمة، بل سيرتها ائتلافات يتناحر أعضاؤها ويتهم بعضهم بعضا بما ارتكبوه كلهم. وقد أثمرت الترضيات محاصصات ضخمت عدد موظفي المدينة. لذلك تدفع العمادة أجور 17400 موظف بينما تحتاج ثلثهم فقط. وهذا ما يبدد الميزانية بينما المدينة تتمدد، تفترس السهول التي تحيط بها، تستقبل هجرة كثيفة، إذ انتقل عدد سكانها من 20 ألفا في 1900 إلى أكثر من خمسة ملايين سنة 2012.
سياسيا، عرفت المدينة أعنف الانتفاضات في عهد الحسن الثاني، في 1965 و1981 و1984. لذلك يتحكم الهاجس الأمني في التعامل مع «البيضاويين». كان الملك الراحل يعرف صعوبة السيطرة على الانتفاضات في المدن الكبرى، وأدرك أن الدار البيضاء هي مختبر المغرب، لذلك قطّعها إلى خمس ثم سبع محافظات، مما أفقد مُسيريها نظرة شمولية للمستقل فغلب الترقيع على التدبير. وصارت الساكنة متروكة لحالها بعد انسحاب الدولة من مجال التنمية وتفرغها للتدبير البوليسي.
تقع المدينة في منطقة فلاحية خصبة هي قلب «المغرب النافع»، وأول منطقة احتلتها فرنسا سنة 1907. بينما لم يتم احتلال المناطق الجبلية القاحلة إلا في 1930، وهي المناطق التي صنفها القائد الاستعماري «ليوتي» بأنها «المغرب غير النافع»، للفرنسيين طبعا. بفضل موقع الدار البيضاء يأتيها الغذاء من كل الجهات. من البر والبحر. لذا فسعر التغذية معقول رغم غلاء السكن... في كل مكان عربات تجرها الحمير محملة بخضار وفواكه الموسم الطازجة التي قطفت قبل ساعات. لم تشحب في ثلاجات السوبرماركت مئات الساعات. مدينة تحتكر ثُلثا الصناعات في المغرب. وهذا ما يجعلها «ميتروبولا» جذابا يستقبل هجرة مهولة، خاصة من جنوب وشرق المغرب. لذا فالقول إن ميزانية الدار البيضاء ضعف ميزانية فاس يتناسى أن سكان البيضاء أضعاف سكان فاس. مع أنه عندما بنيت فاس لم تكن «كازابلانكا» موجودة. لكنها ظهرت لأسباب سياسية عندما أسس المستعمرون مدنا شاطئية لإضعاف وزن المدن الداخلية، القديمة والمحافظة. مدن جديدة ضمت النخبة التي تحكمت في مغرب الاستقلال.
في الأحياء الراقية، حيث يقطن «البيضاويون الأصلاء» يحنّون لكازابلانكا في بداية الاستقلال. قبل أن تهجم عليها «العروبية»، أي البدو الأعراب الذين يحتلون المُلك العمومي ويمارسون نشاطا اقتصاديا غير مهيكل. أي عشوائي. يسخر المدينيون من البدو، يقولون العشوائية صارت قاعدة بل صارت في الأذهان.
أين يتموقع من يلاحِظ؟ هذه وجهة نظر الذين يكسبون من نمط اقتصادي مهيكل ويعيشون في فضاءات عصرية غالية ويتجاهلون أن الحداثة مكلفة. لكن يصعب على من جيوبه ممتلئة أن يتفهم قسوة الاحتياج.
لذلك فالعشوائية، بالنسبة لوجهة النظر المقابلة، نعمة لمن لا يملك لا شهادة عليا ولا وظيفة وموارد للعيش. صدر العشوائيات مفتوح وأليف، وهي تناسب المهاجرين المقتلَعين من مناطق أخرى، وخاصة النساء، لأن المدينة العملاقة تحرر النساء من سيطرة الإكراهات الاجتماعية وتمنحهن حرية تعريف أنفسهن من جديد بعيدا عن أعراف القبيلة ولاتسامحها مع السوابق العاطفية.
مئات آلاف الأشخاص يأتون حيث حرية تجارة هائلة، يقيمون مشاريع صغيرة أحيانا بلا رأسمال، يمكن اقتراض السلعة للتجوال بها، أو نصب ربع خيمة وتسميتها مطعم أو «مصنع لإصلاح طناجر الضغط»... يعتمد الوافدون «العروبية» على عضلاتهم، يكسبون رزقهم ذاتيا. يعملون ساعات طويلة فلا يدخرون وقتا وطاقة للتفكير. يقوي التكرار عضلاتهم ويضر عقولهم. وهكذا يحول الإنهاك البدني بينهم وبين بذل الجهد الثقافي... وفي وضعهم هذا لا يطالبون بشيء وبذلك يمنحون السلام التام للدولة، حتى حين تصادر عرباتهم، لا يشعلون النار في أجسادهم.
مع ذلك لم يحصل هؤلاء على السلام. فقد خصص لهم المسرح والتلفزيون والسينما مساحة كبيرة للسخرية من شخصية «البدوي في الدار البيضاء». وقد تخصص الكثير من الكوميديين المغاربة في أداء شخصية البدوي الذي يسهل تمييزه لاستهدافه، فهو حسب الكوميديا السائدة يتكلم بلكنة مضحكة، يستخدم معجما في طريق الانقراض، وهو ساذج، تائه في المدينة الكبيرة، يسهل النصب عليه لأنه جاهل وليس في مستوى ذكاء المدينيين... كوميديا مبتذلة، كريهة، لم تعد تضحك الكثيرين، وتهين كرامة المتفرج وقد تجاوزها الواقع، وهي سطحية أضاعت القبض على روح مدينة الدار البيضاء.

مقالات من المغرب

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

للكاتب نفسه