المغرب.. نساء الدرجة الأولى

محطة «الدار البيضاء المسافرين» في قلب المدينة. من هنا تنطلق «قطارات الخط» التي تربط بين مئات المحطات على طول 2109 كيلومترات في المغرب. من هنا ينطلق 36 قطاراً حضرياً يجوبون الدار البيضاء. من هنا يمر 18 قطاراً يومياً يربطون مراكش بالدار البيضاء. من هنا ينطلق قطار كل نصف ساعة يربط الدار البيضاء بالرباط من السادسة صباحاً حتى السادسة مساء. وقد تمّ تشغيل 24 قطاراً من
2013-11-27

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
في محطة قطار الدار البيضاء (من الإنترنت)

محطة «الدار البيضاء المسافرين» في قلب المدينة. من هنا تنطلق «قطارات الخط» التي تربط بين مئات المحطات على طول 2109 كيلومترات في المغرب. من هنا ينطلق 36 قطاراً حضرياً يجوبون الدار البيضاء. من هنا يمر 18 قطاراً يومياً يربطون مراكش بالدار البيضاء. من هنا ينطلق قطار كل نصف ساعة يربط الدار البيضاء بالرباط من السادسة صباحاً حتى السادسة مساء. وقد تمّ تشغيل 24 قطاراً من طابقين مما ساهم في رفع عرض النقل بنسبة 40 في المئة، كما تتم حالياً تثنية خطوط عدة. وهذا مصدر فخر للمكتب الوطني للسكك الحديدية الذي يحتفل في تشرين الثاني/ نوفمبر 2013 بالذكرى الخمسين لإنشائه، وبالذكرى المئة لتأسيس أول خط سكة حديد في المغرب سنة 1913 وذلك لنقل الجنود الفرنسيين بغرض استعمارنا...
وللمكتب طموحات كبيرة مع وعد ببدء تشغيل القطار فائق السرعة بين طنجة والدار البيضاء في 2014. في انتظار أن يقام ربط قاري بين الدار البيضاء ومدريد. وأن تفتح الحدود مع الجزائر ليحمل القطار الطماطم المغربية إلى الجزائر الشقيقة، وذلك يوم تتوقف عن الخوف من فعالية القطاع الخاص المغربي.
هكذا قلنا كل شيء دفعة واحدة عن الحديد والحجر، وننتقل إلى البشر.
أمام باب المحطة مطر خفيف يبهج أحفاد الفلاحين. آلاف الركاب يدخلون ويخرجون، محطة الدار البيضاء موحشة، نصف مضاءة، فيها ست كراسي. الركاب المدينيون يشترون جرائد وماء وشوكولاتة. يُسرعون وهم يلعنون القطار الذي تأخر ربع ساعة بينما البلد تأخر قرناً... من حسن الحظ أن وقت الانتظار قصير جداً. هذا نعمة لمن كان يسافر عشر ساعات في حافلات الجنوب القاحل. هنا ليس المهم فقط أن نَصِف ما نراقبه، بل لا بدّ من كشف خلفية الذي يراقِب ومن أين جاء لنفهم وجهة نظره.
يقف القطار فيتزاحم ركاب الدرجة الثانية على الأبواب الكثيرة. يعلن صوت نسوي أن عربة الدرجة الأولى توجد في مؤخرة القطار. يتوجه الزبائن إلى بابها على مهل.
في مقصورة داخل عربة الدرجة الأولى ثلاثة رجال وامرأتان، سيقضون عزلة لساعة وجهاً لوجه. لتجنب تبادل النظرات يغرق كل واحد في شاشة هاتفه أو لوحته. الهاتف فضاء ترفيه معزول يلعب فيه كل فرد وحيداً، والمثل يقول «العبْ وحدك ترجع راضي». وللهاتف وظيفة سوسيولوجية وسيكولوجية: يشير للموقع الاجتماعي ويظهر تميّز شخصية صاحبه. أما اللباس فيظهر درجة الرفاهية والذوق. وهذا يُنتج عنفاً مضمراً ضد الذين لا يملكون هذه الأشياء.
صحيح لم يعد الفرد يشعر بالتفاوت لأن تبرجز الذوق وحّد الجميع تقريباً. لكن هناك فرق كبير بين التبرجز على مستوى الذوق والذهن والتبرجز على مستوى الفعل أي الامتلاك. بإمكان الجميع مشاهدة الماركات العالمية، لكن ليس بإمكان الجميع شراءها. واضح أن الركاب هنا من ذوي دخل جيد. محامون وموظفون... المهم أن نساء الدرجة الأولى «شكل ثاني»، مغسولات أنيقات يلبسن معاطف قصيرة، حرص مصمموها على جعل الإرداف مكشوفة تسر الناظرين. لتصريف الضجر، تلقي الراكبات بين حين وآخر نظرة على النافذة وبها حقول ومبانٍ تجري للخلف.
بما أن ثمن هاتفي لا يزيد عن مئة دولار فأنا أخفيه. أتصفح بعض الجرائد وألاحظ كثرة المقالات الإنشائية التي يبدأها أصحابها هكذا «كنت في مقهى فسمعت النادل يقول. كنت ماشياً فرأيت. اتصل بي صديق وسألني وضحكنا عن البرنامج التلفزيوني. فقلت له...».
أغيّر العربة لأوسع مجال المراقبة. يجوز لراكب الدرجة الأولى النزول للثانية. العكس ممنوع. في الممر المزدحم ألقي نظرة على نساء الدرجة الثانية يحملن الكثير من الأشياء، وغالباً هنّ تحت رقيب مرافق. هناك امرأة وابنتها أو امرأة ورجل. وضعُهن الاقتصادي غير مريح وهذا يظهر في الأصابع خاصة، فاليد التي تعمل كثيراً منذ الصغر تصير فطحاء لا تطول أظافرها... فرويد مفيد هنا رغم أنه عانى من فوبيا القطارات وخشي ركوبها.
أعود للدرجة الأولى.
أتجاهل الركاب الذين يظهر أنهم يسافرون بسبب العمل. أتفحص الذين أخمن أنهم يسافرون لساعة بسبب موعد غرامي...
كيف يمكن استجواب نساء مجهولات من دون تهمة التحرش؟ قيل: يبدأ التحرش ما بعد رفض الطرف الآخر للعرض التلميحي الأول. حالياً تفكر الحكومة التي يقودها الإسلاميون في الرباط بسن قانون متشدد ضد التحرش، وسيحسن هذا من مرتبة المغرب كمكان لعيش النساء. حالياً يحتل المرتبة الثامنة بين الدول العربية بينما تحتل مصر المرتبة الأخيرة. في المغرب يسهل على النساء السفر وحيدات، من دون محرم أو «محلل». لا يخضعن للختان. يمكن سماع ضحكاتهن الرنانة في العربات.
وهذا يزعج الفارس الذي «يضرب ويهرب»، ويفضل الزواج التقليدي. يتجنب نساء ليبراليات يضعن ساقاً على ساق بلا خجل. يدخن بحرية. واثقات أنهن مساويات للرجال ويكفي تغيير القوانين لتحقيق المساواة. وهن يتصرفن على هذا الأساس. وهذا يوتر أبناء الفلاحين، ما يغذي «أزمة الذكورة» لدى الكثيرين الذين يشعرون أن التحرر التام للنساء سيؤدي لانقراض الرجولة. لذا يعود الكثيرون - حتى من الطبقة الوسطى الذين تلقوا تعليماً عالياً - للزواج من العائلة، والأفضل أن تكون عائلة فلاحية. وهذا ما دفع الكثير من البنات الراغبات في الزواج بعد سنّ العشرين للعودة «للأنوثة المشددة» التي تظهر الطاعة وتأخذ في الحسبان مصالح الرجل، «كتضحية» لتأسيس أسرة مستقرة. فالنساء هن اللائي يحملن عبء استقرار المجتمع.
دخل القطار محطة الرباط، نزلتُ ووقفتُ في السلم الكهربائي فأخذني لأعلى. إذا كان السفر قطعة من الجحيم، فإنه حين يكون بالقطار بين الرباط والدار البيضاء ولأقل من ساعة فهو رفاهية مدهشة.
محطة الرباط تحفة معمارية، مضاءة، مقاهٍ عدة مفتوحة على البهو الرخامي. جلست في أقرب كرسي. بعد رشفة قهوة قوية، تابعت الكتابة من المكان عينه. كسوسيولوجي رجل أفضِّل مراقبة النساء. لكن وعيي بالذات العارفة بنفسها يفسد الحفلة التنكرية، يفسد متعة ابن فلاح تمركس، يجد نساء المدينة مستفزات. يقول بيير بورديو «إن علماء الاجتماع، أشبه ما يكونون بمشاغبين، يفسدون على الناس حفلاتهم التنكرية». ليس على الناس فقط بل على أنفسهم. فالذي يتخصص في المراقبة نادراً ما يعيش ويستمتع...
بعد القهوة، ركبت القطار من جديد عائداً للدار البيضاء. مع ركاب جدد يشبهون السابقين. يشترون الشوكولاتة. يمضغون ويتكلّمون في الهاتف بمتعة. فالسفر بالقطار الذي يلتزم بوقت محدد أقل كلفة وأكثر أماناً بالنظر لمجازر حوادث السير. لذا زاد الطلب على الشقق الموجودة قرب محطات السكة الحديدية. لو كان المغرب كله هكذا لاندثر منه البؤس.

مقالات من المغرب

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

الحرّية للصحافيين والسّجن للصحافة

الصّحافيون الثلاثة الأشهر الذين أُفرج عنهم، أُدخلوا السّجن بتهم جنسية، لا بتهم متعلقة بحرّية الصّحافة أو الرأي، كما هو الواقع. وهي استراتيجية مباشِرة إلى درجة تثير السخرية، لكنها أيضاً لئيمة...

للكاتب نفسه