ساحة الفْنا بمراكش: الفضاء الساحر

«قلبك كبير، مَن جاء لدارك يأكل. أنت مرضي الوالدين، الذين هم أكبر منك يحبونك والذين هم أصغر منك يحسدونك والخير قادم إليك»... هذه هي الخلاصة التي انتهت إليها العرافة بعد أن قرأت طالعي في أوراق اللعب الموضوعة على كرسي صغير أمامها. دفعت لها دولاراً ونصفاً وابتعدت.بعد قليل جاء إليها شخص آخر، سلّمته ورقة ووضعها على قلبه، أخذتها منه، خلطتها مع باقي الأوراق بمهارة ثم بدأت
2013-12-11

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
(من الإنترنت)

«قلبك كبير، مَن جاء لدارك يأكل. أنت مرضي الوالدين، الذين هم أكبر منك يحبونك والذين هم أصغر منك يحسدونك والخير قادم إليك»...

 هذه هي الخلاصة التي انتهت إليها العرافة بعد أن قرأت طالعي في أوراق اللعب الموضوعة على كرسي صغير أمامها. دفعت لها دولاراً ونصفاً وابتعدت.بعد قليل جاء إليها شخص آخر، سلّمته ورقة ووضعها على قلبه، أخذتها منه، خلطتها مع باقي الأوراق بمهارة ثم بدأت تضعها أمامه وهي تتكلم.

 حين انصرف لحقت به. سألته إن كانت صادقة لأني أريد أن أعرف مستقبلي منها. أجاب بمعنويات مرتفعة أنها صادقة وأخبرته أنه محسود. يبدو أنها قالت له الكلام نفسه الذي قالته لي. ومن حق الفرد أن تنبت له أجنحة حين يكون محسوداً. ذهبت إلى عرافة أخرى.

 وضعتُ يدي في كفها في استسلام شامل لمنطق المكان، تشرح لي مستقبلي بكلمات عامة فضفاضة، تفخم صوتها ودورها قبل كشف النبوءة عن يوم صعود حظي. حدثتني عن حبيبة سمراء مضت وأخرى سمراء دخلت قلبي... قاطعتها «هل سأفوز بالسعفة الذهبية في كان؟»، لم تجب وسرى فيها الشك. واضح أن الجنّي الذي يخدمها قد وُلد قبل اختراع الفن السابع.

 تابعت تجوالي في هذا الفضاء الساحر. الرابعة بعد الظهر يدب النشاط تدريجياً في قلب مراكش التي يحرسها سبعة رجال متصوفة دفنوا فيها. وهم أولياء صالحون في خدمة الشعب. وقد تعطلت بركتهم في 29-11-2011 حين قتل سبعة عشر شخصاً بعد أن فجّر إرهابي مقهى في الساحة التي يُنظر إليها كمفخرة سياحية... الآن. بينما في بداية الاستقلال، كان اليساريون يخجلون من الساحة لأنها تقدم الوجه الفولكلوري المتخلف للمغرب. وقد تولى الكاتب الأسباني خوان غويتوصولو المقيم بمراكش الدفاع عن المعلُمة التاريخية، وكشف أن دولاً عديدة حاولت صناعة مثيل لها دون جدوى.

 ساحة من حوالي عشرة آلاف متر اجتمع فيها ما لم يجتمع في غيرها: مطاعم في الهواء الطلق، يحث نُدُلها المارة على الجلوس للأكل بكل اللغات. يكفي دولاران لتناول اللحم والشبع. لحم طبخ في «طنجية» وهي مؤنث الطاجين، عبارة عن قدر تعبَّأ باللحم والتوابل وتدفن في الرماد لتنضج لساعات.
فيها إدام ولذة.

 ويمكن للآكل من موقعه أن يتابع نساء منقبات ينقشن الحناء الفاحمة على أفخاذ السائحات الشقراوات. وغير بعيد، صانع أسنان تقليدي، أمامه طاولة عليها كُلاّب وعشرات الأضراس والأسنان.

 بجانبه بائع أعشاب طبية وسحر، مثل جلد ثعبان وقرن غزال. والأغلى مخ الضبع، وهو مفيد لصناعة الغباء. فالزوجة التي تطعم زوجها في وجبة مخ الضبع يصير خاتماً في يدها يطيعها ويتبعها ولا يضربها. كل مساء يقف العشّاب يعدد فوائد الأعشاب التي يبيعها.

 يزعم أنه يعالج الروح والجسد. لتقديم الدليل يحكي عن زبون لديه زوجتان، سوداء لفصل الشتاء وبيضاء لفصل الصيف. يقف شاب وشابة لسماع العشّاب يفتخر بفتوحاته في معالجة الضعف الجنسي. واضح من الحناء والملابس الجديدة ومن الضحكات الخجولة للشابة أنهما متزوجان حديثاً، تعتبر زيارة مراكش ليومين شهر عسل كاملاً. تلكز الشابة العريس بكوعها ليشتري الأعشاب لتختبر النتيجة بنفسها... أتابع رحلتي في الساحة التي تقدّم غذاء البطن وغذاء العين والأذن.

 على بعد عشرات الأمتار من العشّابين، حلقات موسيقية. فرق موسيقية شعبية من كل أنحاء المغرب، تعزف وتحصل على نقود. حين يكون العزف مؤثراً يرقص المتفرّجون أيضاً. وحين يضجرون من العزف يقف الزائرون على مروّضي حيوانات غير نافعة، قرد يرقص، فأر مقامر يعرف الاتجاه ويساعد صاحبه على كسب النقود من الرهانات. ذات مرة كان هناك مروّض حمير، يقول للحمار نم فيفعل، يقول له انهض فيفعل.

 هكذا تمكّن المغربي من تعليم الحمار ليكسب قوته. بجانب المروضين لاعبو «جمباز مغربي» شبان بأجساد لينة وقوية في آن، يقومون بحركات متناسقة سريعة، يتناوب فيها الوقوف على الأيدي والأقدام، يقفز بعضهم على بعض فيصنعون ثلاث طبقات بشرية.

 يسمّون أولاد حماد أو موسى. كثيرون يظنون أن هذا الاسم يعود لمجموعة أشخاص، أو للسيرك في طبعته المغربية.الإسم يعود لولي صالح صار مقاوماً عندما غزا البرتغاليون منطقة أغادير العام 1505 (سموها سانتا كروز). حينها درب الولي مريدي زاويته لتكون لديهم لياقة بدنية صلبة للإغارة...

 ومن هنا جاءت تلك الحركات المتناسقة والقفز. تمكن المغاربة من طرد البرتغاليين وبقيت الحركات الرياضية التي صممت لأغراض حربية، وسيلة تسلية في الحلقة.وهكذا، فإن كل المظاهر التي تجري في ساحة جامع الفْنا قد نبعت من أعماق المغرب. لذا فإن فرجة الساحة الأسطورية صامدة، وقد نهضت بعد أن سال فيها الدم. حوالي الثامنة ليلاً اشتد الزحام، ابتعدت عن الساحة وتوجهت لصومعة الكتبية، محاطة بحدائق غنّاء. قرب الصومعة بائع قهوة متنقل. جل شوارع مراكش حدائق غناء بلا أزبال، يصعب تصور أن مدينتَي الدار البيضاء ومراكش تقعان في بلد واحد.

 صعدت إلى مقهى مرتفع. توجد مقاهٍ ومطاعم فوق سطوح المنازل المحيطة بالساحة، من هناك تلتقط العين ما يجري من نظرة واحدة. أضواء وأعمدة دخان الشواء تتصاعد... حوالي العاشرة تراجع الزحام فنزلتُ إلى الساحة من جديد، توجهتُ صوب حلقات الحكواتيين، رجال تجاوزوا الخمسين يقفون وسط عشرات المستمعين يحكون قصصاً شفهية. الحكواتي مثقف لا يكتب.

 في مجال الحكي لا تعتبر الأمية مشكلة. الحكي أكثر انتشاراً من التفلسف. جحا أشهر من سقراط، ففي تلقي الحكاية، نفكر ضمن وعي جمعي. وهذا سهل للأغلبية المطلقة. في التفلسف نفكر ضمن وعي فردي. وهذا نادر التملك للبشر. استقلالية الفكر تخيفهم بينما التماهي مع الحكاية يسعدهم وهم يرددون بعد سماع ذلك «وأنا أيضاً وقع لي كذلك».

 الحكايات الشفوية تراث إنساني لامادي مهدد بالانقراض. حين يموت المسنون، حمَلة التراث اللامادي، يفقد البلد مكتبات بكاملها. ما هو التراث اللامادي؟ هو الحكي. هو درايات تدبير الحياة. مع الهوس بالتكنولوجيا يجهل الشباب الثروة اللامادية للمسنين الذين يملكون الحكمة.

 ما وظيفة الحكاية/الحكمة؟ هي تفكيك شيفرة العالم. تساعد على الفهم. تشرح قواعد سير الحياة. تنبئنا الحكايات بعواقب أفعالنا وتساعدنا على اكتشاف المكر. لا تدرَك الحكمة بسهولة. يقول ميشيل فوكو «إن الحكمة، شأنها شأن كل المواد الثمينة يجب أن تنتزع من قلب الأرض». ولبّ الحكمة ليس الشجاعة. هو مواجهة المحن، بل القدرة على تجنب الوقوع فيها.

 

مقالات من المغرب

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

الحرّية للصحافيين والسّجن للصحافة

الصّحافيون الثلاثة الأشهر الذين أُفرج عنهم، أُدخلوا السّجن بتهم جنسية، لا بتهم متعلقة بحرّية الصّحافة أو الرأي، كما هو الواقع. وهي استراتيجية مباشِرة إلى درجة تثير السخرية، لكنها أيضاً لئيمة...

للكاتب نفسه