في فندق فخم في "حي الأعمال" بكازابلانكا، تواجه لجنة توزيع الاعتمادات (بطاقة الدخول) في مؤتمر مغربي محنة. فقد جاءها صحافيون وجمعويون وفنانون يطلبون اعتمادات ودعوات لولائم "البوفيه المفتوح"، علما أن آخر إحصاء يقول أن المغربي يستهلك فقط 37 غراما من اللحوم الحمراء يوميا... يفحص المسؤول عن الاستقبال كشوف المهرجان فلا يجد أسماء الواقفين أمامه. يعتذر بأدب جم بينما يتباكى طالب الدخول، وحين يفشل التباكي يندد "بعنصرية المنظّمين" بإقصاء وتهميش المواهب والكفاءات في هذه البلاد الملعونة. يصعّد تدريجيا ويسأل المكلف بالاستقبال: "ألا تعرفني؟".
يتلقى جوابا مريبا، فيهدد بأنه إن لم تقدر موهبته حق قدرها فورا فسيصدر بيان شجب عرمرم وينظم وقفة احتجاجية في باب مقر المؤتمر. في كثير من الحالات نفِّذ التهديد. وقف بضعة أشخاص بين العمارات الزجاجية الشاهقة ينددون بالتهميش، وبلغة واضحة بالذين لم يشتروا منهم مواهبهم. وهؤلاء المحتجون تجار مقنَّعون بينما في حي الأعمال هذا، التجار واضحون. هنا تتشبه كازابلانكا بنيويورك. ففي برجي "توين سنتر" شركات استثمار وتدبير رأسمال و"ماناجمانت" ومحلات تجارية زجاجية تظهر السلعة وبائعها وسعرها. المنافسة شرسة والبائع يشعر بالفخر. يصعب على من يكسب كثيرا أن يتواضع أو يتباكى.
بينما البائع المقنَّع يحترف التباكي، وهو يظهر في المهرجانات والمؤتمرات والندوات بأشكال مختلفة: شاعر بلا قصائد، صحافي بلا مقالات، ممثل بدون أفلام، كاتب بلا كتب، سياسي لم يفز في أي تصويت، رسام دون لوحات. هذا النوع لا ينتج، ولكنه ينشط في مجالات عدة. من هذه النماذج أصحاب مواقع إلكترونية يعرفون أنفسهم كإعلاميين ولا يكتبون، مرة ألقى أحدهم نظرة على موقع "السفير" فقال إن ماكيت موقعه أفضل. سألته متى تأسس موقعك؟ أجاب: منذ عام.
قلت له إني عاجز عن الرد.
عادة، تبدأ جل المهرجانات والمؤتمرات متأخرة عن الموعد المحدد بساعة على الأقل، وبغض النظر عن الشكاوي الفصيحة التي يمكن تسجيلها عن التعامل مع الزمن، والتي سبق قولها دون أن يتغير شيء في ضرورة الانضباط للبرمجة. مع الانتظار، تجري مراقبة طويلة لطفيليات النخبة بالعين الثالثة. مراقبة أولئك الذين لا ينتجون ويريدون تبوّؤ صدارة المشهد. فكيف يسوق هذا النموذج نفسه؟ ماذا يريد وماذا ينقصه؟
في التسويق، الكلمة المفتاح لسلوكه هي البحث عن الفرص، لذا فهو قاعد "ركبة ونصف" ينتظر الفرصة. مستعد لبيع روحه للحصول على دعوة. حين يصل مقر "الحفل"، يصافح الواقفين حسب الأهمية وليس من اليمين كما نصحه عمر بن الخطاب. يلتقط الصورة مع المشاهير للإخبار بأنه كان هناك، يقبِّل أشخاصا يلاقيهم أول مرة ليظهر للزبائن المحتملين الذين يستدرجهم، أنه معروف ومحبوب، مسلح بـ"كارت فيزيت" للتواصل. الحدث الذي يفرحه هو أن "اتصلوا بي" من؟ يستفيض يخبر الجالسين حول عرض فيلم، فباله مع هاتفه، لا يستطيع إغلاقه، مخافة أن يتصل به زبون ما.
يعتبر الزبون مثل فريسة يجب صيدها هنا والآن فورا، وإلا أفلتت منه. حين تطول المداخلات يذكر مسيِّر الندوة الاستراحة أو بقرب موعد الغداء. يستقر جوعه في جمجمته لا في معدته. لهذا لن يشبع ولا علاج لجوعه. أثناء الأكل "يرخي أذنه" بحذق لصيد الفرص، لأن النميمة تعادل بالنسبة له وزنها ذهبا. حين يتبرع بنميمة "مازالت في كيسها البلاستيكي" يطلب مقابلا، يطلب من "الإعلاميين" الكتابة عنه، لا يجدون ما يكتبونه، حينها يكتب هذا المقاول عن نفسه مع وضع صورة كبيرة له، أكبر من حجم الخبر.
في مثل هذه المناسبات حين يسير الرجل على سجاد سميك يشعر أن حجمه وسعره أعلى. يمجد دون كيشوت، يبدي إعجابه ببطل سيرفانتيس ويتجنب تقليده. فدون كيشوت في الأخير متهور حطم نفسه ليسقط الطواحين. البديل؟ من الأفضل أن يغمس لسانه في العسل قبل أن يتكلم، ليس من الجيد للبائع أن يكون ما في قلبه على لسانه. يعرض على كل زبون وصفة بمقادير على مقاسه.
يبذل البائع المقنَّع جهدا لتسلية النساء اللواتي يتحدث إليهن، حتى لو أخرج قلمه وبدأ يرسم لحى وشوارب لصور كاتالوغ المهرجان. ولا يفوته لاحقا أن يزعم أن الهيئات التي تديرها نساء شابات تحصل على تمويل سريع. يتنهد ويتمنى لو خُلق امرأة في هذا الجانب فقط.
ما الهدف من كل هذا؟
يريد أن يتسلق،أن يبني نفوذه، يريد أن يعمم نهجه، لذا فهو ينصح المبتدئ بلغة زلقة: هناك أولويات وتدرّج لابد أن تنتبه لهما، شئت أم أبيت، لا بد أن تكون لك أنت مصالحك... ينصح المغامرين أيضا: منطقكم هذا سيحطمكم.
ماذا ينقصه؟
يفتقر للياقة البدنية الثقافية الضرورية في مجاله، يجهل، بل يتجاهل أن النفوذ السياسي والثقافي الحقيقي يصنعه العمل والإبداع. لكن المقاول عاقر لا ينتج مقالا أو قصة أو قصيدة أو فيلما، لا يملك ما يدعيه (تنتشر في المغرب تسمية ساخرة من ناقد سينمائي شفوي)، تحركه الأحلام والفرص ويفتقد الموهبة والجهد الضروريين لتحويل الحلم لحقيقة. في كل النشاطات الثقافية يحضر بلا إشعاع، حضوره جسدي على أعلى تقدير، يقدم مثالا لغزو القيم التجارية لحقل الثقافة. غلافه الخارجي لامع لكن السلعة ضعيفة.
مع الزمن تنكشف حقيقته، يقاوم المجتمع هذا النموذج. حين يتحدث الناس عنه أو إليه يختمون حديثهم بالدعاء، ذلك أنهم يشبهون وجهه الذي لا يخجل بمقلات قديمة، صلبة، صدئة ما عادت تتأثر بالنار والسقوط والذل.
مع ذلك يستمر في سلوكاته بلا خجل، بلا بوصلة، يفتقد الأصالة والتوجه، يستنسخ الآخرين بغرض تقليص المسافة بينه وبين الهدف بقفزة. في أحيان كثيرة يفاجأ المراقبون بتحقيقه لنجومية عابرة. يعزون أنفسهم بأن البيض الفاسد يطفو.
انظروا حولكم وستجدون نماذج تطبيقية لهذا البورتريه.
مواضيع
كيف يسوّق البائع المقنَّع نفسه؟
مقالات من المغرب
أنا وليالي الضّوء في الغابات
لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...
جفافٌ يَلِدُ فيضاناتٍ في المغربِ القَصِيِّ
الضرر كان فادحاً، ومسَّ في الأساس البنى التحتية لطرق ومدن وقرى جنوب شرق المغرب، التي تم بناؤها لتحمل مجموع سيول مطرية معتادة. وشملت الخسائر انهيار حوالي 56 مسكناً بشكل جزئي...
الحرّية للصحافيين والسّجن للصحافة
الصّحافيون الثلاثة الأشهر الذين أُفرج عنهم، أُدخلوا السّجن بتهم جنسية، لا بتهم متعلقة بحرّية الصّحافة أو الرأي، كما هو الواقع. وهي استراتيجية مباشِرة إلى درجة تثير السخرية، لكنها أيضاً لئيمة...
للكاتب نفسه
تهريب بالمؤنث بين المنبع والمصبات التجارية
تفحّص لمثال "البغلات"، وهن النساء المهرِّبات من معبر "سبتة" المدينة المغربية المحتلة من إسبانيا الى كل الاسواق الشعبية في المغرب..
الخطاطة السردية لتغيير قيادة "حزب العدالة والتنمية" في المغرب
القصر يستعيد صدارته ونفوذ محمد السادس بلغ أوجه. هناك موجة ارتداد سياسي واجتماعي، والأولوية للتمسك بالوضع القائم في المغرب، لأنه أفضل مما يجري في الجوار..
المنظومة المعرفية المهيمنة: الحافظ يهزم الفاهم
المدارس المغربية مصبوغة جيداً ومجهزة. لكن، ينقصها شيء ما.. النظام التعليمي مبني على الحفظ والاستظهار وهو لا يتيح الانتقال من التلمذة إلى البحث، من اجترار اليقين إلى الإنتاج..