سُنن عبور البساط الأحمر 

أضواء وحرس ومعرض حي على البساط الأحمر في افتتاح مهرجان مراكش السينمائي. النجوم فوق البساط السميك والبشر العاديون خلف السياج على الإسفلت. يكاد الجو يمطر، لذا فالنجوم في السماء أقل من النجوم على البساط. يصفق الجمهور لممثل تلفزيوني محلي أكثر مما يصفق لمرور مارتن سكورسيزي وكفه على خصر الإيرانية غولشيفته فاراهاني أو الفرنسية ماريون كوتيار... نجمتان بقد ميّاس كما غازله صباح فخري. على
2013-12-18

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
الممثلة البريطانية جيما آرتيرتون في مهرجان مراكش السينمائي (من الانترنت)

أضواء وحرس ومعرض حي على البساط الأحمر في افتتاح مهرجان مراكش السينمائي. النجوم فوق البساط السميك والبشر العاديون خلف السياج على الإسفلت. يكاد الجو يمطر، لذا فالنجوم في السماء أقل من النجوم على البساط. يصفق الجمهور لممثل تلفزيوني محلي أكثر مما يصفق لمرور مارتن سكورسيزي وكفه على خصر الإيرانية غولشيفته فاراهاني أو الفرنسية ماريون كوتيار...
نجمتان بقد ميّاس كما غازله صباح فخري. على البساط، يشكل الجسد الجميل نعمة أسطورية، كل من تكوّر بطنه وصار أعرض من كتفيه لا يثير الانتباه. ليلى حاتمي، بطلة فيلم «انفصال» كانت محتشمة. كل عام يحرص المنظمون على حضور نجمة إيرانية واحدة.
يبدو أن ذلك جزءاً من الاقتصاد السياسي للمهرجان.يسدد المصورون على الشابات اللواتي يكشفن الكثير من لحمهن. ويعتبر عدد الفلاشات التي تلمع علامة على أهمية عابر البساط. وبما أن التكرار يسبب الملل، فيجب على النجم أن يقدم الجديد في مروره اللاحق، ولا بد من الإثارة في اللباس والسلوك. لذلك أدخل المصممون تغييرات على القفطان المغربي فصار يشبه فستان السهرة، فيه فتحات كبيرة على الكتف والصدر والفخذين، وحين يكون أسود يليق أكثر بعابري البساط.
القفطان محتشم مقارنة مع الدانتيل الأسود الذي يستر ويكشف دفعة واحدة.هذا للنجمات. أما بالنسبة للنجوم، فتقتضي سُنن البساط أن يكونوا مرفوقين بقد ميّاس. الجديد في اليوم الرابع: زادت القبل على البساط. يبحث المصورون على قُبَل نارية، وقد خلدوها في صور عدة نجوم: يضع النجم كفه على القد الحلبي للنجمة ويطبع قبلة على خدها أمام الجماهير المنتشية.

مثلها مثل ابن الفارض الذي أنشد:
قدك الميّاس يا عمري - يا غصين البان كاليسر
أنت أحلى الناس في نظري - جلَّ من سواك يا قمري

هكذا يدرك المتصوف جلالة الخالق في تسوية القد الميّاس. وقد قال ابن عربي إن عظمة الله تدرك في خلق النساء أكثر مما تدرك في خلوة قمم الجبال. وسيراً على هذا النهج، وقف المخرج الأميركي الكبير مارتن سكورسيزي لتكريم شارون ستون واستشهد بنص رولان بارت عن وجه غريتا غاربو التي اعتبرها تجسيداً للجمال الأفلاطوني. قال بارت ذلك في كتاب «ميتولوجيا»، حيث كشف كيف تتحول ثقافة البرجوازية الصغيرة إلى ثقافة كونية. السينما هي التجلي الأعلى لهذا التحول، لذلك فإن أفراد البرجوازية الصغرى مثلي يشعرون برهبة أمام النجوم: سكورسيزي، شارون ستون، جولييت بينوش... أمام هذه الأسماء المُؤلّهة بتعبير بارت، يتعطل الحس النقدي لدى الجماهير المبتهجة بآلهة صغيرة فاتنة على البساط الأحمر. هكذا يزعم الفن تعويض الدين.صباح الغد مررت على البساط، كان مهجوراً بلا معنى. له لون لسان الكلب، وهو اللون الذي سحر زوجة فرعون.
بدءاً من السادسة مساء، نشط الاستعراض من جديد. العبور على البساط هو سقف النجاح، هو لحظة المجد. البساط فرصة للافتتان بالجمال. تتناسب مشية كوتيار وقول الأعشى في معلقته «غراء فرعاء مصقول عوارضها»، جمع جمال القد والوجه والشعر والابتسامة في شطر واحد.هذه هي سنن مرور النجوم على البساط. ما الذي يصنع النجم؟ الصورة أصدق إنباء من الكتب، في حدها الحد بين النجم والنكرة. توجد صور النجم في كل مكان، يحاصر معجبيه بصور تخلد لحظات حياته.
هكذا يصير اسم النجم طنانا. تتحقق الشهرة بالموهبة أو الفضيحة، وتكون الشهرة الحقيقية بالمنجز، بالعمل العميق والمؤثر. وتكون الشهرة الفورية بانتشار الصور بين الجماهير. الجماهير، بمفهوم كرة القدم لا في عرف اليسار. كلما تفاعلت الجماهير دل ذلك أن الصور حميمية، حالمة.لذلك فالجمهور الواقف على جنبات البساط مسلح بكاميرا ويلتقط صورا رقمية فورية من دون حاجة لغرفة سوداء وتحميض وورق، جمهور واثق أن كل من يمر على البساط موهوب. يسلم الرائي انه ليس من طينة المرئي، لكن الحلم ممكن، وحلم النجومية عدوى تصيب الواقفين حول البساط الأحمر.
في بعض الأحيان ينتحل النكرات صفة النجوم ويمرون على البساط، يحرصون على بعض الحركات البهلوانية لإثارة الانتباه. وهم بذلك يعرضون أنفسهم للسخرية، لأن النكرات معرضين للتعثر وحتى للسقوط على البساط ما داموا يراقبون مشيتهم بشدة.
هؤلاء معذورون، فأية مهانة أشد من أن يكون الفرد نكرة في عصر الصورة. لكن الجماهير تشعر بالإهانة حين تفاجأ بالنكرات على البساط وتتساءل: من هذا؟ من هذه؟ لتدقيق قوانين المرور على البساط توجهت لريجيس دوبريه الذي جاء لمراكش للحديث عن كتابه الأخير «مخدّر الصورة» Le stupéfiant image، سألته: المهرجان السينمائي هو أفلام وبساط أحمر. ما هي قوانين عبور البساط؟ أجاب: استفاد الديكتاتور من البساط الأحمر. كان مروره إشهارا.
المرور على البساط بالنسبة للسياسي لحظة تقديس وبروتوكول لبناء أسطورة القائد. لحظة يكون فيها العابر على البساط مختلفا عن الآخرين، فوقهم، مُؤلَّها. وأضاف دوبرييه الذي حلق شاربه الشهير إن السينما تبني الميتولوجيات، تبني هويات الأوطان، لأن السينما فن شعبي ونخبوي دفعة واحدة. وأكد أن للسينما وظيفة سياسية. هكذا كشف دوبريه الوجه الآخر للبساط الأحمر.
في هذه اللحظة التي تطوي مراكش بساطها تتسلم دبي المشعل لتقدم الوجه المشرق للخليج. اشتد التنافس العربي على الاستثمار في الاقتصاد السياسي للسينما. وبما أن مهرجانات دمشق والقاهرة وقرطاج جمعت بسطها، فإن مراكش ودبي تلمعان. وكلما زادت الفخامة وسلطة النجوم الحاضرين زاد العائد السياسي للبساط الأحمر.

مقالات من المغرب

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

للكاتب نفسه