ثقافة معطرة بالمرق

على باب البناية الكبيرة العابسة تعريف لها: «المركب الثقافي»، وعلى الأبواب المحيطة بالبهو الداخلي الواسع أسماء المرافق على ألواح بلاستيكية. هناك مراحيض غالبية صنابيرها جديدة ومعطلة، تسيل سبعة أيام في الأسبوع لأن ثمن الماء سيدفع من المال العام. يمكن شم رائحة البول من المدخل، عند الباب. بعد البول يمكن للزائر شم رائحة الشاي المنعنع أو رائحة المرق. ففي غرفة الإدارة موظف لديه
2014-01-08

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
المركب الثقافي في منطقة أغادير

على باب البناية الكبيرة العابسة تعريف لها: «المركب الثقافي»، وعلى الأبواب المحيطة بالبهو الداخلي الواسع أسماء المرافق على ألواح بلاستيكية. هناك مراحيض غالبية صنابيرها جديدة ومعطلة، تسيل سبعة أيام في الأسبوع لأن ثمن الماء سيدفع من المال العام. يمكن شم رائحة البول من المدخل، عند الباب. بعد البول يمكن للزائر شم رائحة الشاي المنعنع أو رائحة المرق. ففي غرفة الإدارة موظف لديه سخان كهربائي فوقه إبريق شاي. على المكتب ورقة وكؤوس عديدة. في المبنى فائض موظفين يقضون نهارهم يُدرْدشون، كما يتناوبون على المداومة ليذهب كل واحد لقضاء بعض أغراضه. 
من أين جاء فائض الموظفين؟
 «المركب الثقافي» هو بناية تمتد على آلاف الأمتار، تضم خزانة كتب وقاعة ندوات وقاعة موسيقى وقاعات اجتماعات وملعبا رياضيا ملحقا بها. وهو تابع لعمادة المدينة، لذا فالتشغيل فيه ليس مركزيا بل محلي، من اختصاص رئيس بلدية المدينة المنتخب، الذي شغّل الفائضين مكافأة لهم وهم سنده الانتخابي، لذا لا يخطر بباله محاسبتهم. مسموح لهم أن يُعدوا الشاي ويطبخوا ويغسلوا، بل يمكن لبعضهم أن يبني جدارا خشبيا ويقطن بجناح المركب الثقافي من دون مشكلة. بعد المرق، يظهر باب كبير كتب عليه ببنط كبير «قاعة المطالعة» وببنط صغير «ممنوع الإعارة الخارجية».
هنا توجد آلاف الكتب التي اشتريت غالبيتها في ثمانينيات القرن الماضي. بعضها فلسفي وجلها ديني ضخم مجلد بالأخضر المذهب. الحادية عشرة صباحا، لا أحد في قاعة المطالعة.
يدرك الموظف أن لا أحد سيأتي ليجلس ويفتح كتابا في هذا البرد الشديد. ولن يأتي أحد في حر الصيف لأن العطلة تُقضى على الشاطئ. وغالبا لا يفكر الموظف في فتح تلك الكتب، فهذه ليست مهمته. كما أنه ليس مسؤولا عن كون الشعب لا يحب القراءة. شعب غريب تزيد فيه بطالة المتعلمين عن بطالة الأميين. وهاكم دليل آخر على براءة موظف المركب الثقافي من لعنة الكتب: حاليا يطبع الكاتب المغربي ألف نسخة على حسابه، ويبيع عشرات النسخ ويهدي الباقي لأعدائه وأصدقائه... وقد أظهر إحصاء أن الفرد العربي يطالع ست دقائق في السنة، بينما يطالع المواطن الغربي 200 ساعة سنويا. للمطالعة فوائد لا تحصى، فهي غذاء للروح، تنمي الخيال وتوفر الوسائل التربوية للفهم. والفهم يُبنى ولا يباع جاهزا. قال شوبنهاور: «إن المطالعة هي التفكير بعقل الغير».
تصور أن تطالع ابن خلدون وكيسنجر وتفكر بعقلهما. هذا ثروة غير نقدية (من النقود) للفرد، لكن البيئة المغربية تكرر هذا السؤال التحقيري في وجه المتعلمين والمثقفين: 
ـــ ماذا أعطتكم الأفلام والكتب؟لكل ناكِري دَور المعرفة في التنمية الإنسانية، هذا جواب يساوي وزنك ذهبا: في سيرته الذاتية توقع بيل غيتس أن ينهار القطاع العقاري وأن يتجه الاستثمار للترفيه والتعليم. وهذا ما اتضح في 2008. لذلك استثمر غيتس في البرمجيات وصار من أغنياء العالم. بُني المركب الثقافي حين كان اليسار في المعارضة، وكان يستخدم المجال الثقافي كمنصة لمهاجمة النظام. كان حينها لـ«منظمة اتحاد كتاب المغرب» التي يسيطر عليها اليسار وزن سياسي كبير. كانت قاعة الندوات تمتلئ بالجماهير. لكن منذ أن وصل اليسار لكراسي الحكومة في مغرب 1998، لم تعد الثقافة سلاحا في الصراع لتعرية السلطة من كل شرعية.
وقد خبا نفوذ اتحاد الكتاب وصار منظمة صغيرة مفتتة. بعد 2003، دشن الملك محمد السادس عشرات المركبات في كل مدن المغرب، مع إطلاق «المبادرة الوطنية التنمية الإنسانية» وحصول المغرب على مكرمة أميركية قدرها 700 مليون دولار لدعم الفئات الاجتماعية المهمَّشة. المركبات الثقافية بلا لمسة فنية، صممت مثل مكاتب إدارية. فضاءات مهجورة مغلقة، نابذة، نادرا ما يُنظم فيها نشاط ثقافي ذو قيمة رغم وجود 90000 جمعية في المغرب. في بعض المركبات الثقافية علب كتب جديدة لم تُفتح بعد، بل وفي بعض تلك المركبات آلات موسيقية تليق بأوركسترا لم تستخدم قط... ومن أراد معرفة نقيض هذا، فعليه زيارة المعهد الثقافي الفرنسي الذي توجد فروعه في مدن الدار البيضاء والرباط وأغادير. وهو معهد مبني بشكل فني مضاء نظيف، يديره موظفون مثقفون، لا سماسرة انتخابات، وتصله الجرائد والمجلات الجديدة كل صباح، ولا تشم رائحة مرق الدجاج في أروقته.
ولكن، صار الحديث عن الكتب موضة قديمة. فما الموضة البديلة؟
برامج مسابقات الاستعراض والغناء التلفزيون. وهي تسلي للحظة لكن لا تخفي أضرار عدم المطالعة. فقد عمّ التعصب للرأي وكثر الذين يعيشون تحت خط الفهم ويضعون الحصان أمام العربة. صار كل حادث عرضي يثير أزمة لأن النفوس الجاهلة مشتعلة.
ظهر قادة يبحثون عن نتائج فورية ويضعون خططا سياسية من دون جذور فكرية. عمّ الجهل زائد الرضى به، فأثمر عنفا جعل الدماء تسيل بين المحيط والخليج كأنها أرخص من الماء. وللتعبير عن وضعنا على مقياس سلم «جهليشتر» يتداول المغاربة نكتة رهيبة. يحكون عن تنظيم مزاد علني للعقول في دبي. بيع عقل الأميركي بعشر دولارات وبيع عقل الياباني بخمسة، بينما بيع عقل المغربي بألف دولار. وعند التحقيق في الأمر اتضح أن عقل الياباني استهلكه التفكير بينما عقل المغربي جديد لم يستخدم قط. في هذا الوضع البائس للكتاب والعقل، من يتذكر توصيات بناء مجتمع المعرفة في تقرير التنمية الإنسانية العربية الذي دعا لتوطين العلم وبناء قدرة ذاتية في البحث والتطوير الثقافي؟
من يتذكر «التحول الحثيث نحو نمط إنتاج المعرفة في البنية الاجتماعية والاقتصادية العربية؟». تلاشى هذا وصار الناس يكافحون البرد القارس ليبقوا أحياء. قال ابن حزم: «لولا الكتب لاستوت دعوى العالم والجاهل». الكتاب مقياس حاسم للتمييز إذًا. الكتاب الحقيقي هو الذي تحس فور الانتهاء من قراءته أنك لم تعد كما كنت قبل قراءته. الكتب تحرر.
ولعدم استخدام العقل فوائد للأسياد. قال ميكيافيلي إنه يسهل حكم الجهلاء. وليس صدفة أنه خلال العبودية في أميركا كان العبيد ممنوعين من قراءة الكتب. وكان البيض يعذبون كل عبد أسود يُضبط ومعه كتاب. الكتب تحرر العبيد، تحرّضهم على رفض الظلم والفساد. يبدو أنه كلما قلّت الثقافة قلّ الوعي السياسي، وكلما قلّ الوعي زادت الحاجة للبوليس. والبوليس مسلحون بالعصي لا بالكتب.

مقالات من المغرب

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

للكاتب نفسه