السلفية الثقافية: منذ المدرسة

صيغ المقرر التعليمي وفْق رؤية سلفية تجد كل الخير والأمل في الماضي الذي ينبغي أن نستعيده على الأصعدة كافة... وهذا دفاع عن مُقدس ثقافي يجعل الماضي مرجعاً لكل إبداع، ماضٍ نهدف إلى استعادته للسير نحو المستقبل.
2014-01-29

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
جميل حمودي ـ العراق

«لقد عرف العصر الجاهلي التعصب القبلي وانعدام الاستقرار والغزو والنهب واستباحة النساء والشهامة والكرم في أقوى صوره، وتميّز رجاله بالحنكة والحكمة ورجاحة العقل... عرف العصر ظهور الشعر العربي الكامل، وهو الشعر الأصل لما سيأتي بعده عبر اتّباع أصله وهو عمود الشعر وشروطه هي جزالة اللفظ واستقامة اللفظ ومشاكلة اللفظ للمعنى وشرف المعنى...».

هكذا يُعرّف بالشعر كتاب مادة اللغة العربية بالسنة الثانية الثانوية بالمغرب. وقد اكتشفت بعد سنوات من تكراري للدروس نفسها على تلامذتي أني أمرر عدداً من الأفكار المقدسة حول العصر الجاهلي وعهد الخلفاء الراشدين والسلف الصالح. عصر المروءة والكرم والصلاح.

وكنت أختم الدرس بإملاء ما يلي: «إن الشاعر التزم بأصول الشعر، سواء كان جاهلياً أو إسلامياً أو أموياً أو عباسياً». ولا تنتهي مهمتي عند تحصيل إجماع قسري في الفصل الدراسي حول «الأصول الثابتة» المصاغة في «عمود الشعر العربي»، الذي نخره السوس ولم يسقط بعد لينمو مكانه غصن شعري أخضر، بل إن مهمتي مزدوجة، إذ عليّ أن أدين العصر الجاهلي أخلاقياً لأنه عرف عبادة الأوثان وأن أمجّد فحوله الذين صاغوا الشعر العربي ناضجاً منتهياً.

 وهذا ما أفعله يومياً، لأن تلامذتي ملزمين بالمرور من امتحان يطرح أسئلة حول قضايا حسم فيها المرزوقي وابن رشيق!! لا يطرح المقرر التعليمي أسئلة مثل: ألا يؤدي تمجيد نموذج الإبداع البدوي الذي ينطلق من السليقة، إلى النفور من المفاهيم؟ ألا يؤدي تمجيد الحرص على التصوير الحسي البسيط، إلى عرقلة تشكل عقل تجريدي لدى التلميذ؟ كيف يمكن الجمع بين الحكمة والتعصب القبَلي؟ وآخر مثال عالمي (كي لا نظلم العرب) جاء من الهند حيث أمر شيوخ قرية في 2014 باغتصاب فتاة لها علاقة بشاب غريب عن قريتها.

كان الرجال الجاهليون يئدون بناتهم، بينما يقول الكتاب المدرسي إنهم تميزوا بالكرم الشديد وبرجاحة العقل، فمن يمكنه أن يزعم بأن الرجل الذي يدفن طفلته حية عاقل؟ثم إن المرحلة عرفت حروباً لامتناهية، مما أثر على الإنتاج الحيواني والزراعي وعلى طرق التجارة في رحلات الشتاء والصيف، ومع ذلك هناك وصف أسطوري لقصص الكرم، عن أخ «رفيع العماد كثير الرماد».

كرم يتعارض مع الحقيقة الاقتصادية، يتعارض مع قلة الحطب في الصحراء، ويتعارض مع حرص النفس البشرية على ما تملك في وقت الرخاء، فكيف الحال وحروب داحس والغبراء مزمنة؟ ثم وفي ظل اقتصاد رعوي غير مستقر، من أين كان ينفق كرماء القبائل؟ إن من يصدق مدائح الكرم في الشعر الجاهلي سيتأسف لأنه لم يعش في ذلك العصر ليشبع. بل سيحزن لأن العصر الذهبي أفلت منه.
إنه تمجيد الماضي مهما كان الثمن. صيغ المقرر التعليمي وفْق رؤية سلفية تجد كل الخير والأمل في الماضي الذي ينبغي أن نستعيده على الأصعدة كافة... وهذا دفاع عن مُقدس ثقافي يجعل الماضي مرجعاً لكل إبداع، ماضٍ نهدف إلى استعادته للسير نحو المستقبل. إن لبّ هذه السلفية الثقافية هو أن كل الأسئلة قد طرحت، وأجاب عنها القدماء بنباهة، ما علينا إلا أن نسلك الطريق نفسه، الحافر على الحافر، لنعثر على الإجابات المرصّعة بالأصالة. الغريب أن تصميم المقرر قد استند إلى الجزء الأول من كتاب أدونيس «الثابت والمتحوّل»، وخاصة على عنوانه الفرعي «بحث في الإبداع والإتباع عند العرب».
وقد ركّز واضعو المقرر التعليمي على الاتباع وتجاهلوا الإبداع.

 للإشارة، يتحدث أدونيس عن الاتباعية في الخلافة والسياسة، في السّنة والفقه، ثم في الشعر والنقد... بل يتحدث عن الحركات الثورية التي لا تسلم للشاعر والإمام من قريش... لكن كل هذا حذف حرصاً على لمعان الماضي الذهبي. كما حذفت قراءة أدونيس المادية التاريخية للشعر العربي واحتُفظ بالشكل الفني فقط. مما يعطي فكرة خاطئة عن عمل أدونيس الذي يؤكد أن الاتباعية في الشعر لا ترجع إلى أسباب فنية.تكرر التعامل نفسه مع الشعر في السنة الثالثة الثانوي (البكالوريا).

إذ يتحدث المقرر التعليمي عن الرومانسية من جانبها السوداوي. نسمع الشاعر الرومانسي يحاور ناره التي تخبو في غرفته. ويتم تجاهل صوت الشابي «إذا الشعب يوماً أراد الحياة»، لأن في استجابة القدر تحدياً «لما كتبه الله لنا»، وطبعاً لا نجد في المقرر صوت درويش يدوّي بعد الهزيمة: بيروت غصتنا، بيروت اختبار الله... يا ألله جرّبناك جرّبناك... وبما أن الشعر الحر «معقّد»، فنادراً ما تقدّم نصوصه في امتحان البكالوريا. وهذا عامل إضافي لإبعاد التلاميذ عن النصوص المشاغبة. وبذلك ألغي كل صوت غير اتباعي، ألغي الزخم الفكري والثوري الذي رافق الشعر الحر. تلاشى السخط على الواقع وتم الاحتفاظ فقط «بالأدبية» وكأنها تجربة معزولة عن السياق الذي ظهرت فيه.

ولا يفسر المقرر للتلاميذ الفارق في التسمية بين «مدرسة أبولو» و«حركة» الشعر الحر. فالحركة فعل، «أكشن»، وهذا هدف شعراء يريدون تغيير العالم لا تأمله. في المقرر الذي درَستُه حين كنت تلميذاً، صُنف شعر محمود سامي البارودي باعتباره كلاسيكية، وشعر جبران خليل جبران باعتباره رومانسية.
في المقرر الحالي استبدلت الكلاسيكية بـ شعر «البعث والإحياء» والرومانسية بـ شعر «سؤال الذات»، وقد تسبب استبدال المفاهيم بقطع صلة التلميذ بحركة النقد العالمية كما يقدمها محرك البحث غوغل.
هكذا يُدرَّس الأدب داخل المؤسسة التعليمية، لما لهذه المؤسسة من خصوصيات، كطابع المحافظة وترويج خطاب الدولة وحراسة القيم الاجتماعية. لذا يفرض أن تكون النصوص التي تدرس قد مرت من غربال ذي ثقوب جد ضيقة. ثم إنه ولأسباب سياسية، تم ربط المقررات التعليمية المغربية في مواد التاريخ والأدب بالجزيرة العربية. فكتاب التاريخ يزعم أن الأمازيغ، سكان المغرب الأقدمين، قد جاؤوا إلى المغرب من الجزيرة العربية عبر الحبشة وليس مصر. وكتاب الأدب يقول إن الشعر الحقيقي جاء من الجزيرة العربية.

لذا ليس صدفة أن تهيمن السلفية على الذوق الشعري، وليس صدفة أن يعلو صوت الفقهاء وتسيطر المسكنة القدرية على الأرواح، وليس صدفة أن تفتقد ثورات الربيع العربي/الأمازيغي لشعراء يصدحون باسمها. والشعر وقود الثورة والشعراء أنبياؤها... لذا قتل بابلو نيرودا. وثوراتنا اليوم بلا شعراء، لذا فهي عوراء لا تجد طريقها بسهولة، وهي مهددة بالوقوع في غرام العسكر.

مقالات من المغرب

الحرّية للصحافيين والسّجن للصحافة

الصّحافيون الثلاثة الأشهر الذين أُفرج عنهم، أُدخلوا السّجن بتهم جنسية، لا بتهم متعلقة بحرّية الصّحافة أو الرأي، كما هو الواقع. وهي استراتيجية مباشِرة إلى درجة تثير السخرية، لكنها أيضاً لئيمة...

للكاتب نفسه