الغاز الإسرائيلي إلى مصر: السرّ في السياسة

كمية الغاز في الحقول المكتشفة في المنطقة تفوق كثيراً حاجات الاستهلاك المحلي. والمسألة هي التوظيف الأمثل لهذا الكنز: بيعه أولاً واستخدامه في العلاقات العامة ثانياً. عن ترابط الصورة الاجمالية!
2018-02-22

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك
لقاء السيسي نتنياهو في نيويورك

أعلن الطرف الاسرائيلي عن الصفقة منفرداً. خرج نتنياهو يصف فرحته بالحدث التاريخي ووصفه بيوم عيد. وتكلم الاعلام الاسرائيلي كما الناطقين بإسم الشركتين الاسرائيلية والأميركية اللتين أبرمتا الصفقة مع مدير شركة "دلفينوس" المصرية. وبدا في هذا الضجيج إحراجاً لمصر التي تلعثم مسؤولوها وإعلامها، ثم ردوا باقتضاب: هذا عمل قام به القطاع الخاص الذي يخوله القانون إستيراد الغاز، ولا دخل للحكومة. ومن كان أكثر جرأة، غامر بالقول أن الاتفاق ينتزع من تركيا مكانة المركز الغازي الاول في المنطقة، كما كان مخططاً له أن يكون، ويضع مصر في مكانها.. وبدا في ذلك بعض السياسة، وإن بمعنى تسجيل نقطة في حلبة التناحر بين البلدين، وبمعنى تعريف صاحب المكانة الإقليمية، التي لو اضيفت اليها التتمة لتعزز المعنى السياسي. فـ"بذا" (أي بهذه الصفقة بين إسرائيل ومصر) ستصبح هذه الاخيرة مورِّد الغاز الاساسي نحو أوروبا التي سيمكنها حينها التخلص من عبوديتها للغاز الروسي الذي تستورده بعدما شح موردها الاول في بحر الشمال، وهذه ضربة لموسكو. وهو في الوقت نفسه تدبير مريح لأوروبا فليس لمصر ــ بخلاف تركيا التي تتطالب بعضوية إتحادها ـ ضغينة معها. "غول"(Goal)!
وعلاوة على ذلك، فالصفقة تربط مصر بشراكة مصلحية كبيرة مع إسرائيل تمتد لعشرات السنوات تبدو إزائها كل الاتفاقات الماضية لعب أطفال.. لاسيما وأنها مرحلة أولى في مخطط عام يقوم على ضم قبرص الى "البزنس". وهي الاخرى تمتلك حقول غاز بحرية، ولم تكن مرتاحة أبداً للخطة الاولى التي تجعل من تركيا المركز. فعلاوة على العداوات المزمنة، كانت هذه الاخيرة تشترط "حفظ حق" القسم التركي من الجزيرة في حصة من غاز البلاد.
لكن كل صرخات الفرح من قبل نتنياهو الغارق في فضائح الفساد (التي يمكن أن تطيح به)، وتبشيره بالمليارات التي ستدخل الخزينة الاسرائيلية و"ستستعمل لتعزيز التعليم والصحة العامين" (كدليل على حرصه على المصلحة العامة!) لم تتمكن من التعمية على حقائق صلبة أكثر من الغاز: الشريك المصري لم يعلن عن فرحه ولا حتى أبدى حماساً، وكأنه "خجل من العلاقة بنا".. ذلك أن الاسرائيليين يريدون "صداقة" وليس بزنس وبس! كما كانوا يريدون من الفلسطينيين حُباً وليس صفقة أوسلو فحسب.
معروف أن كمية الغاز في الحقول المكتشفة في منطقة شرق المتوسط تفوق كثيراً حاجات الاستهلاك المحلي: في اسرائيل حقلي تمار وليفيثان، في قبرص حقل افروديت، في مصر حقل ظُهر وهو الاكبر في المتوسط ويحتوي على ضعف الكمية المخزونة في حقل ليفيثان الاسرائيلي، وهناك حقول تقع في المياه الاقليمية اللبنانية والسورية، كما هناك حقول قبال قطاع غزة.. وهناك مزيد من الاكتشافات الممكنة في المنطقة. فإذاً تغدو المسألة واقعة في باب التوظيف الأمثل لهذا الكنز: بيعه أولاً واستخدامه في العلاقات العامة ثانياً. وإسرائيل هي أول وأقوى مستثمريه.
ستتكفل مصر إذاً بالتسييل والبيع، وهي تشتري غازاً اسرائيلياً ضمن هذا المنطق. واسرائيل رابحة ومرتاحة، فالطرف المصري يدفع الثمن لها ثم "يصطفل" في تدبر التسويق، وهو مضمون بالطبع. إلا إذا برزت مشكلة كيفية نقل الغاز من إسرائيل الى مصر. فلو عن طريق انابيب تمر في سيناء فهذه مشكلة. فهي فجرت 12 مرة في السنوات الماضية الى أن توقف توريد الغاز المصري الى اسرائيل في 2012 (كانت العملية تتم بهذا الاتجاه!)، وطالبت هذه الاخيرة بتعويضات وحكمت هيئة تحكيم دولية لها بحقها فيها. هناك خط انابيب تحت الماء يُفكَّر بمده، وهو سيكون بمأمن من عمليات النسف، والمسافة ليست كبيرة (كما كانت لو استُبقي الخيار التركي)، وهناك إمكان النقل بالسفن.. وهو ما يبدو انه سيجري الآن قبل وبعد التسييل. ومصر تمتلك محطتي تسييل جاهزتين للعمل وقد افتتح الرئيس السيسي احداهما منذ اسابيع.. وكأن "حدْساً" اتاه بأن القطاع الخاص سيوقع هذه الصفقة الضخمة!
ها قد عدنا للسيسي! هذا استبق افتتاح محطة التكرير بتوقيع قانون في آب/ أغسطس الماضي يسمح للشركات الخاصة باستيراد الغاز من حيث تشاء. وكان عراب القانون علاء عرفة، وهو رجل اتفاقيات "الكويز" في مصر (Qualified Industrial Zone، من يذكرها؟ هي عبارة عن ترتيبات اعتمدت في الاردن بداية ثم في مصر عام 2004، وهي تتبع قانون أمريكي سن عام 1996، وتسمح للمنتجات المصرية بالدخول إلى الأسواق الأمريكية دون جمارك أو حصص محددة شرط أن يكون المكوِّن الإسرائيلي في هذه المنتجات 11.7 في المئة منها، وقد هُندست لدعم "عملية السلام في الشرق الأوسط"). وعرفة أيضاً أحد أصحاب شركة دلفينوس إياها التي وقعت اليوم الاتفاق مع الشركات الاسرائيلية.
... هل ترون الصورة الاجمالية وكيف أن الاشياء في هذه الدنيا مترابطة؟
ثم قابل السيسي في أيلول/ سبتمبر الماضي نتنياهو في نيويورك (أنظر صورة اللقاء المصاحبة لهذا النص). ثم بدأ باعتقال كل من تسول له نفسه الترشح للانتخابات الرئاسية في آذار/ مارس المقبل، بداية خشية من مرشحين جديين من أوساط دولتية اصلاً، قد يروق لمؤسسات متمكنة في البلد (الجيش وما يقال له "الدولة العميقة") رعايتها وتشجيعها تخلصاً من جنون وبدائية الفرعون الجديد. وهذه حال شفيق وعنان، الضابطين الاعلى رتبة ومقاماً من السيسي، وأصحاب العلاقات الدولية والإقليمية الأرسخ والامتن تاريخياً منه.. وقد نبهت إسرائيل الولايات المتحدة الى خطر التفكير باستبداله، بحسب ما نقلت صحف عالمية واسرائيلية على السواء. ثم استكمل السيسي ضرباته: المستشار جنينة لأنه أيد عنان ولأنه يمتلك ثقلاً بذاته، والمحامي خالد علي كصوت مدني معارض، وأخيراً الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح لأنه رجل محترم ويتكلم بما يعتقد، ولاسيما أنه ليس مرشحاً بل ــ ويا للفظاعة ــ فقد دعا لمقاطعة الانتخابات. والسيسي لا يرضى بأن يكون مرشحاً أوحداً وفائزاً بالضرورة، بل يريده فوزاً جماهيرياً كاسحاً. وحين تساءلت صحف إسرائيلية عن ضرورة الكشف عن الاتفاق الغازي قبيل الانتخابات المصرية، باعتبار الحرج الذي يمكن أن يتسبب به للسيسي، رُد عليها في الحوارات والتعليقات الخاصة بها بأن "الريس" قادر على التعامل مع أي معارضة.
... هل ترون الصورة الاجمالية وكيف أن الاشياء في هذه الدنيا مترابطة؟
بقيت الخطوة التالية: جعل الاقتراع إلزامياً، بالقانون لو أمكن وبالسياط لو لم يمكن. وهناك ما هو بعدها، فالحلول لا تنضب: جعله مبايعة بلا ساتر وصندوق، خشية التصويت بـ"الورقة البيضاء". وهكذا، الى أن.. لأن هناك الى أن!

مقالات من مصر

للكاتب نفسه

كنيساً يهودياً في باحة "الأقصى"

تتجسد معاني "خروج الحسين"، لمواجهة الطغيان، هو وأهله وكل من يخصه - مع معرفتهم المؤكدة بما يقال له اليوم في اللغة السياسية الحديثة "اختلال موازين القوى" لغير صالحه - في...