عبق التاريخ: حوار مع شهاب إسماعيل عن التاريخ والسياسة والمجاري

حوار مع الباحث المصري شهاب فخري اسماعيل، الحائز على شهادة الدكتوراه عن رسالة بعنوان "هندسة المدينة: الوباء ورأس المال وتأسيس القاهرة كمدينة كولونيالية تحت الاستعمار البريطاني، ١٨٨٢-١٩٢٢"..
2018-02-22

شارك
مواسير شركة مياه القاهرة وإحدى الآبار العميقة التي حفرتها الشركة. من كتاب Twentieth Century Impressions of Egypt (١٩١٦)

عن موقع خالد فهمي


 شهاب فخري إسماعيل باحث مصري، بدأ حياته الأكاديمية بدراسة الفلسفة، فقد حصل على الليسانس في الفلسفة عام ٢٠٠٢ من جامعة بنسيلفانيا، ثم الماجستير في الفلسفة أيضا بعدها بعامين من نفس الجامعة، قبل أن يتحول لدراسة التاريخ. ففي عام ٢٠٠٩ حصل على الماجستير في دراسات الشرق الأوسط من جامعة كولومبيا، ثم الدكتوراه في التاريخ من نفس الجامعة عام ٢٠١٧.

وكانت رسالة الدكتوراه بعنوان “هندسة المدينة: الوباء ورأس المال وتأسيس القاهرة كمدينة كولونيالية تحت الاستعمار البريطاني، ١٨٨٢-١٩٢٢” تحت إشراف مروة الشاكري.
وقد كان لنا هذا الحوار معه بالإيميل:

 

لقد بدأت حياتك الأكاديمية كدارس للفلسفة، وتحديدا للفلسفة الإسلامية.  ما سر تحولك من دراسة الفلسفة لدراسة التاريخ؟

 

نعم بدأت حياتي الأكاديمية بدراسة الفلسفة، وكانت الفلسفة الإسلامية إحدى تخصصاتي بجانب الفلسفة الغربية. حدث هذا التحول لدراسة التاريخ تدريجيا نتاج سببين أساسيين. أولا، أصابني الإحباط من طرق تدريس وتعلم الفلسفة في الأكاديميا بشكل عام، وخاصة التأكيد على ضرورة التخصص الشديد في مفكر واحد، بل وأحيانا أيضا كتاب واحد. فنجد كثير من الإنتاج الأكاديمي الفلسفي هو عبارة عن شرح لكتاب ما أو أطروحة عنه. وكان هناك جو عام من قبول فكرة أنه على الباحث أن يفني عمره في دراسة مفكر واحد أولا قبل أن يقدم على أي أفكار أخرى جسورة، فلم يروق لي ذلك حينها. أعتقد أن كل حقل أكاديمي له حدوده وربما تكون حدود الفلسفة الأكاديمية أضيق من غيرها. ثانيا، في منتصف الألفينات كان العالم يعاد صياغته بعنف مع احتلال العراق ومع تصاعد وتيرة الحراك السياسي في مصر. فجذبتني هذه الأحداث لدراسة العالم العربي بشكل عام وقرأت كثيرا في التاريخ لأحاول أن أفهم كيف وصلنا لما نحن فيه، فكان هذا مدخل لاهتمامي بدراسة التاريخ بشكل منهجي.

 

الصفحة الأولى من مقال من جريدة The Lancet، ١٩٠٩

 

لماذا اخترت المجاري موضوعا لرسالة الدكتوراه؟

 

هناك صدف كثيرة تحدث في حياة الإنسان، منها أن يهتم بتاريخ المجاري. بدأ اهتمامي بهذه المسألة وبالتاريخ السفلي للقاهرة بشكل عام منذ حوالي ثمانية أعوام. كنت في هذه الفترة أقرأ بتوسع في تاريخ الاستعمار وخاصة الأوروبي، وقد ازدهر هذا الحقل الأكاديمي—أي تاريخ الاستعمار—منذ أكثر من عقدين، كما أخد دفعة جديدة مع التشكل العنيف لعالم ما بعد هجمات ١١ سبتمبر والاحتلال الأمريكي للعراق في ٢٠٠٣ ومع اعادة فتح ملف الولايات المتحدة الأمريكية كإمبراطورية. كما قرأت كثيرا عن تاريخ مصر في فترة الاحتلال البريطاني وتشكلت عندي قناعة أن هذه الحقبة مازالت غامضة، ليس فيما يخص الملامح الأساسية للسردية السياسية، ولكن بخصوص الحياة الاجتماعية تحت الاستعمار بمعناها الأشمل، مثلا الحياة اليومية في المدن. وكنت في هذه الفترة أتناقش بشكل مستمر مع روبرت فيتالس وإيف باول بجامعة بنسلفانيا، وكلاهما لديه اسهامات عن تاريخ مصر في فترة الاحتلال وما بعد ثورة ١٩١٩. حينما بدأت قراءة أجزاء من الخطط التوفيقية لعلي مبارك استوقفني نقطتان. الأولى هي وصفه لـ“تلال القاذورات” التي كانت تحيط بالقاهرة والتي ربطها مبارك بانتشار الأمراض والأوبئة في المدينة. أدركت بعد ذلك من أكثر من مصدر أن هذه التلال كانت موجودة بالفعل ولم تكن مجرد تهويل من الكاتب، فشكلت تلال القمامة خطا موازيا للبوابات الشرقية للقاهرة يمتد من القلعة جنوبا الى الدراسة شمالا وارتفع بعضها الى أكثر من ٤٠ مترا كما سميت بأسماء تنذر بالسوء مثل تل البرج الزفر وتل قطع المرأة. أما الملحوظة الثانية فهي زيارة علي مبارك لباريس وافتتانه بنظام المجاري التي أسسه البارون هوسمان. استرجعت هذه القراءات حوارا ملهما مع خالد فهمي عن الأوبئة وتطور القاهرة في منتصف القرن التاسع عشر. أتذكر أيضا أنني وجدت ما اعتبره كنز أكاديمي، وهو مجموعة من التقارير الصحفية عن القاهرة نشرت عام ١٩٠٩ في مجلة Lancet البريطانية، المتخصصة في الطب والصحة العامة. كتب هذه المقالات أدولف سميث، وهو صحفي اشتراكي بريطاني كان يشغل منصب المفوض الصحي الخاص للجريدة، في زيارة للقاهرة امتدت قرابة الثلاثة أشهر، أفاض فيها عن الكثير مما يتعلق بأمور النظافة ومياه الشرب وشبكة الصرف الصحي في تلك الفترة. وكانت أكثر الأمور إثارة للانتباه والحماسة هو أن الكاتب ألقى الضوء على الكثير من الصراعات السياسية والاجتماعية التي أحاطت بمشاريع البنية التحتية، وهي أنماط جديدة من التكنولوجيا احتك بها عموم القاهريين نظرا لطبيعتها المتعلقة بالحياة اليومية. وتلخيصا للقول، كانت هذه هي بداية اهتمامي بمشروع الدكتوراه، حيث بدأت بشكل منظم في تدارس علاقة العمران كفضاء بالحياة البيولوجية للمدينة ببنيتها التحتية، وكيف يتعامل الاستعمار مع هذه العلاقات المركبة.

 

الرسالة لا تتعلق فقط بتاريخ المجاري ولكنها تتناول تاريخ القاهرة أثناء الاحتلال البريطاني. لماذا ركزت على هذا الموضوع الأكبر؟ ولماذا هذه الفترة؟

 

الكلي يفرض نفسه أحيانا. أعتقد أن هذه تجربة الكثير من الأكاديميين، بمعنى أن الباحث يبدأ بسؤال أو بحدث أو بفرضية “صغيرة” نسبيا أو واضحة المحددات، ولكنه يكتشف بعد ذلك أنه من أجل الإجابة على هذا السؤال أو شرح الحدث أو إثبات الفرضية ينبغي عليه استحضار السياقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية الأوسع لها. وهذا منطقي لأن الواقع أو التاريخ لا ينقسم بنفسه إلى حقول أكاديمية أو إلى أسئلة منفصلة. لا أعني أن أي دراسة ينبغي سلفاً أن تشمل كل شيء، بل أن تتبع أسئلتها وأطروحاتها إلى أبعد مدى ممكن.
في البداية تصورت أنه من الممكن أن تتناول أطروحة الدكتوراه فقط مشاريع البنية التحتية كرد فعل للضغوط التي سببتها أوبئة الكوليرا التي تفشت في مصر أعوام ١٨٨٣ و١٨٩٥–١٨٩٦ و١٩٠٣. ولكنني اقتنعت بعد ذلك أن تلك ستكون إجابات مبتورة لأسئلتي. السبب الأساسي في هذه القناعة أنني كنت قد بدأت افهم كيف ساهم رأس المال في تشكيل القاهرة في هذه الفترة، فقد مرت المدينة بطفرة نمو سكاني صاحبها تطوير الكثير من أحياء الطبقات الغنية والوسطى الصاعدة وإفقار الأحياء الأقدم، وقاد رأس المال هذه الطفرة الاسكانية بمباركة النخب الحاكمة والإدارة الكولونيالية للبلاد. وتسبب هذا التطور المتناقض في أول أزمة اسكان بمعناها الحديث كما طُرحت فكرة إدارة المدينة كمشكلة سياسية تتعلق بمن له أحقية التصرف في الأموال العامة لتعريف وتحقيق الصالح عام. فكانت مشاريع البنية التحتية التي تهدف إلى تحسين الحالة الصحية بمثابة استجابة ما لضغوط وفرص دخول رأس المال لفضاء المدينة. باختصار قادني العالم السفلي للمدينة لما هو فوق الأرض ولتاريخ القاهرة بشكل أعم.
أما عن لماذا هذه الفترة، فهذا يرتبط بسؤال كبير عن تقسيم التاريخ إلى حقب، أو سؤال الـ periodization. التاريخ أيضا لا ينقسم بنفسه إلى حقب تاريخية. فيجب أن يكون اختيار الباحثين لحقبة ما مرهون بتعليل هذا الاختيار وبفهم ضمني أن أي اختيار لا يخلو تماما من التعسف أو الاعتباطية. هناك مزحة يرددها المؤرخون أحيانا عن أنفسهم أعتقد أن فيها بعض الصحة: تقول المؤرخة س أن الفترة كذا في غاية الأهمية لرصد تطور نوعي جديد ما، فيأتي المؤرخ ص ليقول أن هذا التطور النوعي غير جديد بالمرة بل أن إرهاصاته بدأت في فترة سابقة، ثم تأتي المؤرخة ع لتقول أن كل هذا بدأ في فترة أسبق، إلخ. الأكيد أن كلا من الاستمرارية والقطيعة حاضران في التاريخ، كلاهما موجود ولكن يجب رصدهما وتبريرهما في سياق البحث، ولكنهما سيظلان محل نقاش جاد بين المؤرخين.  
جاء تركيزي على هذه الفترة من اهتمامي بتاريخ الاستعمار، ولقناعتي بأن شيئا كان يتشكل في القاهرة لم يدرس بما فيه الكفاية وهو بالفعل مختلف عما قبله ومفصلي في فهم تطور المدينة اللاحق. فمن ناحية، كنت مهتما بدراسة كيف يتعامل المستعمر البريطاني مع مدينة بأهمية القاهرة، ومع المدن بشكل عام، فالمدن نظرا لكثافتها السكانية تفرض صعوبات خاصة ربما لم تكن في حسبان المستعمر، صعوبات تتعلق بالتموين، بالصحة العامة، بالإسكان، بنظم المواصلات، وبتنظيم العلاقة المكانية والاجتماعية ما بين السكان الأصليين والمستعمرون البيض. ومن ناحية أخرى، أرى أن هذه الفترة (١٨٨٢–١٩٢٢) جديرة بالدراسة لذاتها. ففيها دخل رأس المال الأجنبي بقوة غير مسبوقة في بناء المدينة وفي تسليع السكن، وفيها شحذت الادارة البريطانية قوتها العلمية والتكنولوجية للأخذ بزمام المدينة وهندستها اجتماعيا عن طريق مشاريع البنية التحتية، وفيها أيضا تشكل مجال عام لم يكن موجود قبله، حيث نمت الصحافة المصرية، مما أفسح المجال لتحدى الاستعمار على أكثر من أرضية ومنها إدارة المدينة. وأخيرا، تأتي ثورة ١٩١٩ كلحظة تفاقم متناقضات كثيرة أذنت للطبقة الوسطة الصاعدة، أي طبقة “الأفندية”، بالصعود السياسي والاجتماعي بعد عقدا أو اثنان من عدم اعتراف الاستعمار بها.

 

تاريخ القاهرة الحديثة تناولته أقلام كثيرة من قبل. في رأيك، هل هناك ما يميز هذه الدراسات السابقة؟

 

بالتأكيد هناك الكثير مما يميز دراسات سابقة عن تاريخ القاهرة، ولا أبالغ حين أقول أنني لم يكن من الممكن أن أكتب رسالة الدكتوراه بدون استشارة هذه الدراسات، فأنا لا أبدأ من الصفر ولكن من حيث انتهت هذه الدراسات. هناك طبعا الكلاسيكيات مثل دراسات مارسيل كليرجيه، “القاهرة: دراسة في جغرافية العمران والتاريخ الاقتصادي”، وجانيت أبو لغد، “القاهرة: ١٠٠١ عام من المدينة المنصورة“. الأولى هي دراسة موسوعية نشرت عام ١٩٣٤ واعتمدت على كمية هائلة من المصادر الأولية المنشورة والوثائق والخرائط الرسمية. أرجع كثيرا لهذه الدراسة ليس فقط لتتبع تطور قصة أو مسألة ما، لتكن تطور الدراسات الجيولوجية في المدينة أو التموين أو مد المواصلات العامة، ولكن أيضا للتنقيب في مصادر الكاتب. أما كتاب جانيت أبو لغد فنشر عام ١٩٧١ وهو ربما أول دراسة تاريخية اجتماعية شاملة بمعناها المعاصر. يقدم الكتاب أطروحات كثيرة عن تشكل المدينة بهذه الطريقة عبر تاريخها، وهو كتاب رائد ليس فقط من حيث نطاقه التاريخي الواسع، بل أيضا لإسهاماته النظرية. فقد قدمت أبو لغد من خلال دراسة تاريخ القاهرة أطروحة هامة حينئذ عن المدن العربية، إن لم يكن مدن دول العالم الثالث بأكمله، كـ“مدن مزدوجة” (أي أنها مقسومة مكانيا واجتماعيا إلي قسمين: الأحياء التاريخية القديمة من ناحية والمدينة الحديثة المتأثرة في نمط عمرانها بالغرب من ناحية أخرى) وأن هذا الازدواج لصيق الارتباط بالماضي الاستعماري. أصبحت هذه الأطروحة محل نقد جاد ولكن هذا لا يقلل من شأن اسهامات أبو لغد. هناك أيضا كتاب “ابحاث الندوة الدولية لتاريخ القاهرة مارس – ابريل ١٩٦٩” وفيه العديد من المقالات الهامة من ضمنها مقال روجر أون عن طفرة الاستثمار العقاري وصناعة البناء في القاهرة في فترة الاحتلال البريطاني. كما أعتبر كتاب محمد سيد كيلاني “ترام القاهرة” (١٩٦٨) من أفضل ما كتب عن الحياة الاجتماعية في المدينة وتشكلها بفعل مد خطوط الترام. وهناك العديد من الدراسات كتبها أندريه ريمون وجاك بيرك وخالد فهمي وجان لوك أرنو وروبر ايلبر ومرسيدس فوليه وجيلان ألوم وجون تشالكروفت ونزار الصياد وأون باراك كشفت عن جوانب عديدة في تاريخ القاهرة. أختلف مع هؤلاء الكتاب في أمور فرعية وأحيانا أساسية، ولكن هذا لا يجب أن يطمس حقيقة أنهم أضافوا إسهامات جادة لفهم تاريخ المدينة.

 

صورة لإحدى أسواق الحمير في القاهرة وخلفها مواسير، ربما مواسير المجاري (١٩٠٠-١٩٢٠). من مكتبة الكونجرس

 

فصول رسالتك تناولت مواضع عديدة، منها: تأثير الأوبئة على تنظيم المدينة وإدارتها. تأثير رأس المال العالمي على سوق السكن. شركة المياه ومحاولة تغيير أسلوب إمداد القاهرة بمياه عذبة. إنشاء شبكة للمجاري. إدارة المدينة. ما هو الفصل المحبب لك؟ لماذا؟

 

هذا سؤال صعب ولذلك سأختار فصلين. الأول هو الفصل الذي يناقش امداد المياه العذبة. أحب هذا الفصل لأن فيه تركيز على حدث غير عادي وكاشف عن تجربة الاستعمار بطريقة لا بديهية. فقد قام نزاع في العقد الأول من القرن العشرين عندمنا قررت شركة مياه القاهرة بالاتفاق مع الحكومة المصرية بالانتقال إلى الآبار العميقة كمصدر لمياه الشرب بدلا من مياه النيل. كانت هذه خطوة غير معتادة، وكان تبريرها هو حماية المياه من التلوث، حيث استقرت قناعة مسؤولي الصحة أن تلوث النيل هو ما أدى لانتشار وباء الكوليرا في العقود السابقة عن طريق مياه الشرب. فصورت الإدارة الكولونيالة وخبرائها مشروع الانتقال لمياه الآبار على أنه مشروع لتحديث البنية التحتية للمدينة ولتحسين حالتها الصحية. ولذلك فوجئ المسؤولون عندما كان رد فعل عموم القاهريين هو رفض هذه المياه الجديدة، وتم التعبير عن هذا الرفض بأكثر من طريقة سواء بالشكاوى أو بالكتابة في الصحف أو بالعودة للسقايين الموزعين لمياه النيل الغير مفلترة ضد تعليمات الحكومة إلخ. اختلفت الشكاوى في طبيعتها، فمنها الشكوى من لون وطعم المياه، ومنها من تأثير المياه على الملابس أو الشعر، ولكن المؤكد أن سكان المدينة، خاصة الطبقات الأفقر، ارتابت من المياه الجديدة وتأثيرها على صحتهم، وصاحب هذا النزاع العديد من الشائعات حول تسميم المياه من قبل مسؤولي الصحة. تكمن أهمية هذه الشائعات في أن عدم صحتها تعبر عن شيء حقيقي في تجربة الطبقات الأفقر للاستعمار وفي إحساسهم بأنهم مسلوبي الإرادة. نتيجة لهذه الضغوط، رجعت الشركة لمياه للنيل كمصدر لمياه الشرب. ما يثير الاهتمام في هذا الصراع هو الطبيعة الأنثروبولوجية للمشكلة، وبشكل مباشر أكثر ما يعنيني هو كيف نفسر هذا الصراع بدون تصويره على أنه مجرد خرافات السكان الأصليين وتعلقهم الغير عقلاني بالنيل، وهو تفسير الإدارة الاستعمارية، وأيضا بدون الإصرار على تفرد وأصالة ما، أي النزعة لتصور المجتمعات المستعمرة كشيء غريب (exotic)، أو تصور نظام معرفي أو رمزي متكامل يتيح المعرفة فقط لمجتمعه المغلق. يتتبع الفصل هذا الجدل ويضع المواجهة بين الخبراء وعموم القاهريين في سياقها المعرفي الأوسع وفي سياق العالم الاستعماري المشبع بتراتبية وعلاقات قوة غير متكافئة.

أما الفصل الثاني فهو فصل المجاري. يتتبع هذا الفصل قصة تخطيط وإنشاء شبكة مجاري القاهرة. ولكن ربما تكون القصة الحقيقية لهذا الفصل هي كيف يفكر المهندسون كعلماء اجتماع ولماذا يفشلون أحيانا في ذلك. يتناول مهندسي البنية التحتية المدينة بطريقة شاملة: ليس فقط بالتعرف على طوبوغرافية القاهرة وطبيعة تربتها ومسار شوارعها، بل وأيضا على أحيائها وعلى مصادر المياه فيها وعلى أساليب النظافة المتبعة وعلى طبقاتها الاجتماعية ومستوى معيشتها بما فيها استهلاكها للمياه أو لجوئها لأماكن عامة مثل الحمامات والجوامع. وتدخل هذه الحسابات في تخطيط مستقبل المدينة، فأي مشروع للبنية التحتية يجب عليه وضع الزيادة السكانية وأي تغيرات اجتماعية متوقعة في الحسبان، بل وأيضا تأثير المشروع نفسه علي حياة المدينة. يبحث الفصل هذه الأمور من خلال قراءة تقارير المهندسين وتتبع نقاشاتهم الداخلية واختلافهم حول طبيعة عملهم. أعتبر مشروعي كنوع من التاريخ من أسفل، بالمعني الحرفي للكلمة. ولكنه من ناحية أخرى هو تاريخ من أعلى أيضا، فالفصل يتناول المدينة بعيون المهندسين وهم مشهورون بالمخيلة الكارتوجرافية، كأن بإمكان المدينة أن تتلخص وتتركز في خريطة واحدة بها الكثير من المعلومات. من هذا المنظور يعتبر كثير من المهندسين أن أي مدينة هي بالأساس مثل أي مدينة أخرى، وتكون الهندسة نوعا من تطبيق العلم الكلي على وضع خاص. ويتتبع الفصل مهندسي عهد الاستعمار بشكل نقدي للكشف عن انحيازاتهم الطبقية والاستعمارية وكيف تُرجمت هذه الانحيازات في مشروع المجاري. كما يتتبع كيف تسببت هذه الانحيازات في فشل قراءة الواقع، وهو واقع متغير حيث يتناول الفصل أثر التغيرات الاجتماعية في القاهرة بعد ثورة ١٩١٩ على بنيتها التحتية التي ترجع لعصر الاستعمار.

 

ما علاقة المجاري بالاستعمار؟ كيف تمكننا دراسة شبكة مجاري القاهرة من فهم جوانب من تاريخ الاستعمار بوجه عام والاستعمار البريطاني لمصر على وجه الخصوص؟

 

أعتقد أنني جاوبت جزئيا على هذه الأسئلة في سياق إجابتي على الأسئلة السابقة لذلك دعني أتناول المسألة من وجهة نظر أخرى مثارة حاليا حول تاريخ الاستعمار بشكل عام. تطل علينا من حين لآخر وجهات نظر أكاديمية تدعي الحياد وتطالب بالنظر لما تسميه “إيجابيات الاستعمار“. تتعامل هذه الدراسات بتعامي مذهل مع الإرث القهري للاستعمار من سلب موارد اقتصادية واستغلال العمالة إلى سياسات الفصل والإبادة العنصرية والقهر السياسي باسم تخلف شعوب المستعمرات. عادة ما تشير دراسات “فضائل الاستعمار” إلى مشاريع البنية التحتية، مثلا إلى مد خطوط السكة الحديد أو إلى تطوير آليات الزراعة والري، للتدليل على أن الاستعمار لم يكن سيئا لهذه الدرجة.  

أختلف بشده مع هذا النوع من الـ“مراجعات“، وأعتقد أن الإرث القهري للاستعمار لا يمكن محوه بهذه السهولة. أنا كمؤرخ—وأعتقد الكثير غيري—غير معني كثيرا بنعت الأحداث أو القوى الفاعلة في التاريخ بالخير أو الشر بشكل مطلق، بل بفهم السياقات الأكبر لها وكيف أثرت على مسارات التاريخ. يعي أي مؤرخ نقدي أن الاستعمار لم يكن صورة كاريكاتورية عن الشر التاريخي، وربما لم يكن يفكر بعقل واحد أيضا. نعم لم يكن الاستعمار الأوروبي مجرد نهب وسلب وسفك، بالمعنى البدائي له أو على طريقة الإبادة الجماعية، فقد حاول الاستعمار كثيرا أن يؤسس لنظام يقنن فيه القهر السياسي والاستغلال الاقتصادي، بل وأن يرفق هذا بتبريرات أيديولوجية كثيرة عن عدم جدارة شعوب المستعمرات وعن طفولتها السياسية وعن رشادة سلطة الاستعمار و“المهمة الحضارية” التي وكلها لنفسه بأن يطور هذه الشعوب وينقذها من نفسها ومن استخدامها السيئ لمواردها. هذه تبريرات من يملك القوة عن نفسه. وكان من الضروري أن يدلل الاستعمار على هذه السردية الميثولوجية بأشكال كثيرة. كما أن الاستغلال الاقتصادي نفسه يتطلب تحديث البنية التحتية للإنتاج لكي يكون مجديا. فقد اهتم المستعمر الانجليزي بتحديث نظم الري والزراعة في العديد من المستعمرات لاهتمامه بمحاصيل زراعية استراتيجية (القطن في الهند ومصر مثلا)، ولنفس السبب كان مد خطوط السكة الحديد وتحديث الموانئ خطوات هامة لنقل واستيراد وتصدير البضائع والمحاصيل. تصب هذه المشاريع إذا في سياسة أكبر تهندس للاستغلال الاقتصادي وتصوره على أنه إصلاح وحكم رشيد يهدف إلى تحسين حال الزراعة وهو في واقع الأمر لخدمة الاستعمار أو الطبقات الريفية الغنية التي اعتمد عليها الاستعمار داخليا في احكام سطوته. بنفس المنطق، صورت الإدارة البريطانية الإصلاحات الصحية في القاهرة على أنها نتاج اهتمام بصحة السكان ف المجمل ولكنها في الحقيقة نتاج ضغوط من الجاليات الأجنبية والنخب المحلية التي كان مقرر لها أن تستفيد أكثر من هذه المشاريع.

 

فيلا علي بك جلال (المعماري: أنطونيو لاسياك، ١٨٥٦-١٩٤٦)، قصر الدوبارة، القاهرة. ١٨٩٨-١٩٠٠

 

انتشرت في الآونة الأخيرة كتب تتناول تاريخ ما اصطلح على تسميته القاهرة الخديوية أو قاهرة الزمن الجميل. ما الذي يمكن أن تضيفه دراستك للمجاري لهذه الدراسات السابقة؟

 

أعتقد أن شيوع هذا النوع من التناول غير النقدي لتاريخ القاهرة في عهد الاستعمار أو الحنين له هو من أكثر ما يثير إحباطي كمؤرخ، وخاصة عندما يردده أبناء الطبقات الشعبية والوسطى. هذا ببساطة لأن العالم الاجتماعي لعهد الاستعمار كان يتميز بتراتبية طبقية وإثنية شديدة بحيث كان الأغلبية العظمى من المصريين في أسفل السلم الاجتماعي وبدون فرصة لصعوده، وأعتبر أن دراستي لتاريخ القاهرة دللت على ذلك. مثلا، لم يكن السكن في معظم الأحياء العمرانية التي تم تطويرها في هذه الفترة من وسط البلد لجاردن سيتي للمعادي إلى مصر الجديدة ونواحيها متاح للغالبية العظمى من القاهريين بل إلى شريحة ضئيلة جدا. أما معظم القاهريين فلجأوا للأحياء القديمة مثل بولاق والدرب الأحمر وباب الشعرية التي ازدادت فقراً وتكدساً وهجرها ميسوري الحال بسبب اهمال المسؤولين، كما لجأت الشرائح الأفقر والنازحين من الريف أو الصعيد أو النوبة للعشش، وهي السلف التاريخي للعشوائيات.

يصعب تصديق هذا بالنظر فقط إلى الصور الفوتوجرافية التاريخية للقاهرة التي نراها في مواقع من نوعية “مصر الجميلة زمان” مثل صور الأزبكية أو شوارع وسط البلد أو مقاهي مصر الجديدة. لكن علينا أن نتذكر أن الصور في أحيان كثيرة تخفي أكثر مما تفصح. تخيل مثلا أن يعاين شخص ما في المستقبل، لنقل عام ٢١١٨، صور وفيديوهات من كومباوندات القاهرة الحالية، مثلا “أب تاون كايرو“. وتخيل أن يخرج هذا الشخص بقناعة أن هذه الصور تعبر عن القاهرة بشكل عام، بكل ما فيها من احياء سكنية غير رسمية وأخرى متكدسة ومهملة ومن سوء تخطيط وإدارة! هذا بالضبط ما يحدث في هذه الحالة.  

بصراحة، لقد أصبت بقدر كبير من الضجر من تفنيد هذا النوع من الحنين في مستهل أي حديث عن القاهرة، رغم إدراكي أن شيوع واستمرارية وتنامي نوستالجيا القاهرة والإسكندرية ومصر بشكل عام قبل ١٩٥٢ لابد وأن يكون له أسباب مادية وموضوعية رغم فقر الفكرة ولا موضوعيتها. أعتقد، أن هذا النوع من النوستالجيا مرتبط بتناقض أساسي متعلق ببؤس الواقع الحالي وعدم توافقه مع خطاب الوطنية السائد لدولة يوليو والذي صور لنا، على أدنى تقدير، أن مصر ليست ولن تكون دولة هامشية فقيرة، في الوقت الذي يزيد فيه فقرنا وهامشيتنا لمستويات غير مسبوقة. يتعلق الكثيرون بقشة تحفظ ماء الوجه، بصورة أسطورية عن ماض ليس بعيدا كانت فيه الأمور على ما يرام أو هكذا تبدو. الخطأ ليس في فهم البشر وقدراتهم التحليلية، بل في بؤس الواقع ولاعقلانيته التي تجبر البشر على التحليق في ضلالات الماضي. وليس من المدهش أن يستمر هذا الحنين لماضي أسطوري في الوقت الذي أُجهضت فيه أهم محاولة في تاريخنا الحديث لإعادة تعريف علاقة الدولة بنا كمواطنين ولتشكيل مستقبلنا بشكل أكثر عقلانية، وهي ثورة يناير ٢٠١١.

 

أشيع بشكل واسع أثناء قيامك بجمع المادة العلمية لرسالتك وتحديدا أثناء محاولتك الحصول على خرائط لمناطق حساسة أنك عميل أو جاسوس أو كلاهما. ما الذي دفعك لأن تنسى أصلك وتبيع أهلك؟

 

إغواء المادة والشهرة بكل تأكيد!! ولنكون جادين، نعم حدث لي موقف مربك أثناء محاولاتي للحصول على نسخ ديجيتال أو غير أصلية، أي مطبوعة، من خرائط القاهرة التاريخية التي ترجع إلى فترة الاستعمار. كنت في إحدى الجهات الحكومية المعنية بالخرائط الرسمية. ذهبت هناك وأنا شبه فاقد الأمل في العثور على هذه الخرائط بعد أن بحثت عنها كثيرا، وكنت علمت بها من بحثي في دار الوثائق القومية ولكن الدار لم يكن لديها نسخة. فوجئت أن كل هذه الخرائط موجودة بالفعل بل وأنها ممسوحة رقميا. أتحدث عن خرائط تفصيلية لمدينة القاهرة ترجع إلى أواخر القرن التاسع عشر، فلا يمكن تصور ما يهدد الأمن القومي فيها. تتميز هذه الخرائط بدرجة عالية من الدقة، فإحداها يقسم القاهرة إلى ٣٥٣ لوحة ترسم تفاصيل المدينة بدقة متناهية، وكان لهذه الخريطة دور مهم في تخطيط إحدى دراسات مشاريع الصرف الصحي التي لم تنفذها الإدارة لارتفاع تكلفتها. تتميز هذه الخريطة أيضا أنها تدرج اسم المالك على كل قطعة أرض أو بيت.

 

خريطة للقاهرة عام ١٩١٦، من مكتبة بودليان، جامعة أوكسفورد

 

بدلا من الترحاب قوبلت في هذه الهيئة بنظرات الريبة والشك، وقد أصبح هذا هو رد الفعل المتوقع الذي يواجه أي باحث أكاديمي في مصر يطلب معلومات رسمية تاريخية كانت أو معاصرة، وهو مفترض أنه حق مكفول. رفض المسؤولون إعطائي نسخ ديجيتال أو مطبوعة من الخرائط بدعوى الأمن وارتفاع تكلفتها حيث يدفع الجمهور ١٠٠٠ جنيه مقابل أي قطعة مجزأة من الخريطة لاستخدامها كحجج لإثبات ملكية أرض. شرحت أنني كباحث أكاديمي معني بتاريخ القاهرة أريد الخريطة كلها—وبالتأكيد لا أستطيع أن أصرف ٣٥٣ ألف جنيه في خريطة—ولكن كلامي قوبل بارتياب أكثر. سمح لي المسئولين بعد معاناة أن أتصفح النسخة الرقمية على إحدى كمبيوترات الهيئة، فظللت أذهب هناك أسبوعين أو أكثر لأدرس الخريطة وأسجل ملاحظات عليها عوضا عن شرائها. حدث في مرة أنني أخرجت جهاز الكمبيوتر الشخصي تبعي، فإرتاب في أمري أحد أفراد الأمن. لا أعلم ما الذي قاله لمسؤول الأمن في الهيئة ولكنني عندما ذهبت إليه قابلني المسؤول بسلسلة من الاتهامات بداية من أنني حرامي إلى أنني عضو في جماعة الإخوان وقال لي حرفيا أنه سوف يشرف على أن أقضي الليلة في قسم الشرطة و“أتكهرب” حتى أعترف بشيء ما. بعد ساعات استطعت أن أقنعه أنني لست لصا أو جاسوسا، فسمح لي بمغادرة المكان ولكنه تحفظ على جهاز الكمبيوتر تبعي لمدة أسبوع للكشف عليه والتأكد أنه لا يوجد هناك مادة مسروقة. أعتبر نفسي محظوظا لأنني غادرت المكان بسلام وأنني استطعت الرجوع للمكان ومواصلة بحثي، ولكنها إحدى المؤشرات (وهناك أخرى كثيرة) على التضييق الرسمي على مساحة البحث الأكاديمي في مصر بدعوى الأمن. كما أن استسهال سوق الاتهامات والتهديد بالحبس والتعذيب، حتى لو كانا بغرض الـ“تهويش“، هو من أكثر ما يثير القلق، ولنا في حادثة جوليو ريجيني عبرة.

 

النص الأصلي للحوار على موقع "خالد فهمي"


وسوم: تاريخمدن

مقالات من القاهرة

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

في مصر يمكنك فقط الاختيار بين سجن صغير وآخر أكبر

إيمان عوف 2024-12-09

تحوّل القانون رقم (73) لسنة 2021، الذي يتيح فصل الموظفين المتعاطين للمخدرات، إلى أداة لملاحقة العمال والنشطاء النقابيين العماليين، والنشطاء السياسيين والصحافيين. وعلى الرغم من اعتراض النقابات والجهات الحقوقية على...