تعطلت حركة المرور في شارع رئيسي في كازابلانكا. وقفت عشرات السيارات تنتظر من دون أن يعرف احد ما المشكل. بعد لحظة ضجر مرّ حمار يجر عربة محملة بالكارتون... مر من دون أن يزعجه أحد لأن حتى سيارة تزيد قوة محركها عن مائة حصان تخاف الاصطدام به. وهو مستمر في أداء واحدة من وظائفه الاقتصادية.
يوميا تجوب آلاف الحمير العاصمة الاقتصادية للمملكة المغربية. بعض الحمير قاطن في الأحياء الصفيحية للمدينة. والبعض الآخر يأتيها بخضر الموسم طازجة من الضواحي الفِلاحية المحيطة. كل يوم يوزع الحمار وصاحبه البطاطس والبصل والطماطم والدجاج الحي... الحمار هو الرّجْل اليمنى للفلاح، بفضله يبيع مباشرة للمستهلكين فلا يستغله الوسطاء. وبذلك ينافس الفلاح السوبر ماركت: يجلب السلعة حتى باب الزبون فيسهّل مهمة ربات البيوت، يبيع بسعر أقل، يقدم سلعة مكشوفة من دون غلاف مُضلل. في المساء يكون الفلاح مضطرا لإنهاء سلعته بأي ثمن لأنه لا يملك مكان تخزين وهذا مفيد للفقراء الذين يشترون الأرخص والضروري.
هذا بالنسبة للحمير البدوية، أما الحمير المدينيّة، فهي تساعد في تنظيف المدينة بجمع كل البقايا القابلة للتدوير... يقف الحمار في المزبلة، يعمل ويأكل دفعة واحدة بينما يملأ صاحبه العربة بكارتون وبلاستيك وزجاج وقشور خضار للماشية. هذا تدوير لا تدفع الدولة ثمنه. هكذا يخدم الحمار المجتمع وهو يستمد طاقته من المزابل، لذا فهو ليس رهينة لتقلبات أسعار النفط. معفي من الضريبة، ليس له رقم لتراقبه الدولة. صبور لا يهرب، لا يحتج.
بذلك، فالحمار متعاون كثيرا مع صاحبه. وهو يناسب الذين يعانون من الهشاشة الاقتصادية الناتجة عن ضعف المهارة المهنية وغياب الرأسمال لبدء مشروع ما. يتقدم الحمار في طريقه في كل الوضعيات، يصعد الدرج، يمشي في سكة الترامواي، معفي من الوقوف في إشارة الضوء الأحمر، يسير في الاتجاه المعاكس... طبعا لا يُلام الحمار على خرق قانون السير، الخطير أنه ليس وحده من يفعل ذلك. بل ظهره رادع للمخالفين، ففي شوارع كازابلانكا مئات المطبات التي تُسمى هنا «ظهور الحمير» لأن شكلها محدب، وهي إسمنتية تهشم سيارات السائقين المسرعين.
و«الحمار» هو الشتيمة الرقم واحد في العنف اللفظي الموجه للذكور في المجتمع المغربي. ولجعل الشتيمة تعكس حالة الغضب وتكون موجعة، يتم تشديد نطق الحاء لأكثر من عشر ثواني أو الإشارة إلى أن الحمار هو والد البغل. وبعد الشتم يسترخي الغاضب. ويقال ان الحمار مفيد حتى في الحلم. فمن رأى حمارا في منامه حصل له خير. وحتى حين يشيخ الحمار يصير مفيدا. وقد عثرت الشرطة على رأس حمار وعظامه فأدركت أن لحمه صار مفروما، للوجبات السريعة.
رغم كل هذه الخدمات الشاملة، لا يحظى الحمار بالاحترام لأنه يمارس مهنة يستطيع الجميع القيام بها وهي حمل الأثقال. وكل المهن التي يستطيع أيا كان القيام بها تكون غير مربحة. يزعم الناس أن مشكلة الحمار هي الغباء. والغباء حسب ألبير أنشتاين هو «فعل الشيء نفسه مرتين بالأسلوب نفسه والخطوات نفسها وانتظار نتائج مختلفة». من حسن الحظ ليس الحمار وحده من لا يتعلم من أخطائه. ولم يبدأ اتهامه بذلك اليوم فقط. فمنذ أكثر من ألف عام حكى ابن المقفع في كليلة ودمنة عن أسد أصيب بالجرب فقيل «كلْ أذني حمار وقلبه لتشفى». وبفضل الثعلب جاء الحمار لزيارة الأسد المريض فوثب لافتراسه فأفلت. وتمكن الثعلب من إقناع الحمار بالرجوع لتقبيل الأسد فوثب عليه وقتله. وحين جاء الأسد ليأكل ولم يجد مراده، قال له الثعلب «لو كان له قلب وأذنان لما رجع إليك».
تحكي قصة لمحمد زفزاف وهو كاتب عاش طويلا في كازابلانكا - عن حمّال عجوز تعب من جر عربته فعرض على شاب جرها مقابل تقاسم الأرباح. هكذا حصل الشاب على دَخل فتزوج. أما الحمال العجوز فكان يجمع نصيبه من الربح حتى اشترى حمارا. استعاد العربة من الشاب وجعل الحمار يجرها. حين شعر الشاب بقساوة البطالة وجد حلا أحولاً: قرر قتل الحمار.
وللحمار قيمة كبيرة في الأدب العالمي، فهو أول شخصية روائية في رواية «تحولات الجحش الذهبي». فحين ملّ لوكيوس من كونه إنسانا بحث عن التغيير، وتوجه إلى معبد دلف ليحصل على مرهم يحوله إلى عصفور. لكن كاهنة المعبد أخطأت فأعطته مرهما حوله إلى حمار... فبدأ البحث عن مرهم يصلح الخطأ، وأثناء البحث عن المرهم جاء لصوص وسرقوا الحمار وباعوه، فعمل لدى عسكري. وهكذا راح ينصت للمحاورات، خاصة أن العسكري لا يخجل من كشف نفسه أمام «حمار». هنا يلعب الحمار دور البصاص واصف الحياة الاجتماعية. وكان ذلك التجسس على الآخرين يساعده على معرفة نفسه.
مواضيع
وظائف الحمار في كازابلانكا
مقالات من الدار البيضاء
الحرّية للصحافيين والسّجن للصحافة
الصّحافيون الثلاثة الأشهر الذين أُفرج عنهم، أُدخلوا السّجن بتهم جنسية، لا بتهم متعلقة بحرّية الصّحافة أو الرأي، كما هو الواقع. وهي استراتيجية مباشِرة إلى درجة تثير السخرية، لكنها أيضاً لئيمة...
الجفاف والبطيخ والأفوكادو وعصابة لصوص الماء في المغرب
ثلثي المنطقة العربية على رأس الدّول الأكثر عرضة للإجهاد المائي في العالم. فمن هم لصوص الماء في المغرب؟ ومن المذنب؟ ومن الضّحية في زمن العطش؟ يؤدي نقص المياه إلى تراجع...
مصير النفايات الأوروبية في المغرب: رَدْمٌ أم إعادةُ تدوير؟
تخفي صفقة استيراد النفايات الأوروبية المثيرة للجدل معضلة خطيرة، تكمن في أن إمكانية إعادة تدوير النفايات في المغرب ضئيلة جداً، إذ لا تتجاوز 10 في المئة من النفايات المحلية، أما...
للكاتب نفسه
تهريب بالمؤنث بين المنبع والمصبات التجارية
تفحّص لمثال "البغلات"، وهن النساء المهرِّبات من معبر "سبتة" المدينة المغربية المحتلة من إسبانيا الى كل الاسواق الشعبية في المغرب..
الخطاطة السردية لتغيير قيادة "حزب العدالة والتنمية" في المغرب
القصر يستعيد صدارته ونفوذ محمد السادس بلغ أوجه. هناك موجة ارتداد سياسي واجتماعي، والأولوية للتمسك بالوضع القائم في المغرب، لأنه أفضل مما يجري في الجوار..
المنظومة المعرفية المهيمنة: الحافظ يهزم الفاهم
المدارس المغربية مصبوغة جيداً ومجهزة. لكن، ينقصها شيء ما.. النظام التعليمي مبني على الحفظ والاستظهار وهو لا يتيح الانتقال من التلمذة إلى البحث، من اجترار اليقين إلى الإنتاج..