لا يشفع للعراق أن يكون قد دُفع من قبل دول الخليج الخائفة، ومن قبل الغرب نفسه، إلى شن الحرب على إيران عقب "ثورتها الاسلامية" التي أسقطت الشاه. صحيح أن موجة الخميني تلك كانت، ولألف سبب، تهدد أولاً البلد المجاور لها: بحكم طبيعتها هي نفسها، وربما كتخطيط كذلك، وبحسب التقديرات آنذاك.. ولكن ذلك لا يمنع أن العراقيين، شيعة وسنة (طالما هذه المفردات على الموضة)، هم من قاتلوا وقُتلوا وخربت بلادهم وعمرانهم واقتصادهم، وخرجوا مَدينين بعد ثماني سنوات، وقد بدّدت الحرب الرهيبة تلك كل الاحتياطي النقدي، وكان كبيراً. وحين التفتَ صدام حسين المزهو بـ"نصره" إلى الذين حماهم بحسب ما اعتقد، تنكروا له وسخروا منه ومن العراقيين و.. العراقيات. وهكذا، فبعد عقد الحرب الساحقة تلك وويلاتها، عاش العراق ثلاثة عقود متتالية لم يعرف فيها شيئاً آخر غير الموت والجوع والدمار: حربان عالميتان شُنَّتا عليه في 1991 وفي 2003، استُخدمت فيهما حتى الأسلحة التجريبية المريعة، وبينهما حصار ساحق لـ12 سنة، وبعدهما غزو واحتلال بزعامة أميركا وقيادتها وإدارتها المباشرة التي فككت عامدة متعمدة ما كان تبقى عقب كل ذلك، وجعلت أرض الرافدين يبابا وأهلها بؤساء.. ولو وقع كل هذا على أي مكان آخر في الأرض، على أكثر المجتمعات تحضراً وأكثر الدول عراقة وقوة، لخرجت ظواهر في البربرية تفوق الخيال.
لقد سُحقت هنا منظومات الأساس في حياة أي مجتمع في العصر الحديث، ما يوفر له قِوامه: الأمان ثم التعليم والصحة والسكن، وقبل ذلك العمل.. وهو للمفارقة البلد متناهي الثراء في موارده النفطية وغير النفطية، والمكان العريق الذي انتج أصلاً كل ما تأسست عليه الحضارة الانسانية، من جلجامش الى حمورابي الى النبي ابراهيم..
ولم يكفِ. زرعت أميركا خلال سنوات وجودها المباشر (ومعها بريطانيا، القوة الاستعمارية السابقة والخبيرة في العراق) ورعت ثم أورثت منظومة سياسية تُحْكِم إغلاق كل منافذ الأمل بالتغيير، على صعوبته بناء على مجمل هذا السياق: "العملية السياسية" القائمة على اقتسام البلد بين عملائها وعلى تشريع أبوابه أمام العمالة للآخرين من القوى العالمية والاقليمية، والاستقواء بهم طالما هي قواعد اللعبة، وعلى تقديم وترئيس الأسفل والأفسد والأكثر إجراماً، في بيئة سياسية واجتماعية واقتصادية لا مجال فيها إلا لهؤلاء.
ثم كان "داعش" واحتلال الموصل ومعها مناطق واسعة من البلاد، خلال ساعات وبشكل مذهل في سهولته، يكشف مقدار الخراب القائم في مؤسسات "الدولة" العراقية حينذاك. على أن التاريخ سيروي تفاصيل الحدث التي ما زالت (شبه) سرية، موضحاً نصيب التواطؤ المحسوب خدمة لأغراض في العراق نفسه أو بما يتعداه.
وحين تقرر التخلص من داعش، عاد العراقيون لدفع ثمن مهول في الارواح وفي خراب العمران.
اقرأ أيضاً: داعش وأعدائه.. المجرمون من كلّ صوب
... كل ذلك لا يشفع للعراق. فإذا بمؤتمر المانحين الذي انعقد لثلاثة ايام مطلع هذا الاسبوع في الكويت يخرج بنتائج "شديدة التواضع". حضرت المؤتمر 74 دولة ممثلة بوزراء على مستوى عالٍ، وحوالى 2000 شركة تبحث عن فرص لتحقيق أرباح. ومن أصل 88 مليار دولار التي طالب بها، أعطي وعوداً بما مجموعه 25 ملياراً. والحجة أن هناك فساداً كبيراً في البلاد جعل منظمة الشفافية الدولية تصنفها في المرتبة 166 من بين 176 دولة، على لائحة البلدان الأكثر فساداً في العالم.
صحيح أن العراق منهوب. وأن الطبقة السياسية الحاكمة و/أو المتنفذة هي عبارة عن مجموعات متناحرة من السرّاق. ولكن الصحيح أيضاً أن هناك 40 ألف بيت مدمر كلياً في الموصل لوحدها، وأن هناك 5 ملايين نازح تشردوا في البلاد ما زال نصفهم بلا مأوى، هذا إنْ جرى حصراً تناول أضرار المعركة مع داعش التي جرت في العام الفائت، وليس سوى ذلك.
يتفاخر الأميركان بأن مصرف التجارة الخارجية وقع مع الحكومة العراقية بهذه المناسبة قروضاً بنحو 3 مليار دولار، لأن الادارة الاميركية تريد تشجيع القطاع الخاص على الاستثمار في العراق. وعلى منوال الأميركان يسير الآخرون: تركيا تعد بـ5 مليار على شكل قروض واستثمارات وبريطانيا تمنح تسهيلات ائتمانية بمليار دولار للصادرات والكويت تخصص ملياري دولار كقروض واستثمارات والسعودية تكتفي بمليار دولار كإستثمارات حصراً.
لا منح إذاً، هذا أولاً، وإن كان يمكن عوض الامتناع بداعي الخشية من الفساد التخطيط لتدابير صارمة لتقليص حجم السرقات التي تتعرض لها هذه الاخيرة من قبل السلطات المحلية كما المانحين أنفسهم والوسطاء، مثلما أثبتت تجارب تكررت في كل الكوارث، من هاييتي الى حيث تشاؤون.
بل هي قروض واستثمارات قليلة ثانياً بالقياس الى الحاجات الملحة. وهذه تعني اصلاً المزيد من الديون المكبلة والمستنزفة، والمزيد من تشريع البلاد للاستغلال والنهب، بشكل "قانوني" هذه المرة.. وقد قال مستثمر فرنسي حضر المؤتمر: هناك فرصة لتحقيق أرباح مذهلة خلال سنتين ولكن لا ضمانات لما يمكن أن يحدث بعد ذلك في منطقة مضطربة وفي مكان يسوده الاعتباط.. اي أن الرجل يريد ارباحاً وفيرة ودائمة.. وهو منطق "البزنس" بالطبع، ولكنه هنا يجعل كلمة الامين العام للأمم المتحدة في مؤتمر المانحين مجرد ثرثرة منمّقة: "العالم مدين لكم جراء نضالكم ضد التهديد العالمي الذي فرضه تنظيم الدولة الاسلامية (...) حان الوقت لاظهار امتناننا الخالص والتعبير عن تضامننا مع الشعب العراقي".
اقرأ أيضاً: عصابات