جاء في ديباجة "الظهير الشريف" الصادر بتاريخ 14 شباط / فبراير 2006 في ما يتعلق ب"خطة العدالة" (أو "العدول"، وهو المأذون الشرعي الذي يوثق الزواج والطلاق والانساب والشهادة..)، أن هذه الأخيرة "تعتبر محورا أساسياً في المنظومة القضائية، لكونها من المهن القانونية والقضائية التي تزاول في إطار مساعدي القضاء، هدفها الأساسي توثيق الحقوق والمعاملات والحفاظ على أعراض الناس وأنسابهم، وتحضير وسائل الإثبات التي تمكّن القضاء من فض النزاعات والفصل في الخصومات". والاهتمام بتنظيم خطة العدول مرّ بمراحل، سواء فيما يخص الانخراط فيها أو ممارستها وكيفية تطبيقها.
وإذا كان النص القانوني المنظم لخطة العدالة (العدول)، لم يمنع على النساء بشكل صريح اقتحام غمار هذه المهنة التي ظلت حكراً على الرجال، فإن اللغة التي كتب بها هذا القانون جاءت بصيغة المذكر وجعلت التأويل ينحو هو الآخر منحى ذكورياً. فقد جاء في المادة 4 المتعلقة بشروط ولوج المهنة ما يلي: "أن يكون مسلماً مغربياً مع مراعاة قيود الأهلية المشار إليها في قانون الجنسية المغربية". صيغة المذكر هذه لم تستثن ولا واحدا من الشروط التسعة التي جاء بها القانون، ولربما "ذكورية اللغة" هي التي أدت إلى منع مجموعة من النساء ممن قبلت ملفات ترشيحهن في مدينة فاس سنة 2010، غير أنهن منعن من دخول قاعة الامتحانات بداعي عدم وضوح النص القانوني الذي يسمح لهن باجتياز المباراة. ولتجاوز هذا الوضع، أصدر المجلس الوزاري الذي يترأسه الملك، قراراً في 22 كانون الثاني/ يناير الماضي يقضي بالموافقة على دخول النساء هذه المهنة، حيث تم تكليف وزير العدل بفتح الخطة أمام النساء. وجاء بلاغ الديوان الملكي موضحاً أن القرار تم "بناء على الأحكام الشرعية المتعلقة بالشهادة وأنواعها، والثوابت الدينية للمغرب، وفي مقدمتها قواعد المذهب المالكي".
التحولات السوسيو - ديمغرافية
عرف المجتمع المغربي تحولات كبيرة مست بناه وأثرت عميقا في أوضاع الأفراد والأسر، بما في ذلك التأثير على مكانة المرأة والعلاقات بين الجنسين. فسواء تعلق الأمر بظاهرة الهجرة من العالم القروي إلى المدن، حيث أصبح التمدين يتسع بشكل مطرد، أو خص الأمر بنية الأسرة التي انتقلت من الأسرة الممتدة إلى الأسرة النووية وما لذلك من أثر في بروز الفرد في استقلال نسبي عن الجماعة، أو تعلق بنسبة الخصوبة وعدد الأطفال الذي تراجع بشكل كبير، أو ما مس مختلف الجوانب المرتبطة أساساً وبشكل خاص بمكانة النساء.. فلا يمكن إلا استحضار ضرورة بل وإلحاح مراجعة القوانين التي تنظم حياة الناس وتؤطر للوضع الجديد الذي أصبحت تعيشه النساء المغربيات، وإصلاحها.
وللتذكير، فنسب التمدرس وسط البنات اتسعت بشكل كبير وشملت حتى الأرياف التي ظل التهميش وإلى زمن قريب يمسها. إذ وعلى الرغم من مشاكل الهدر المدرسي، فقد تزايد عدد المتمدرسات وعدد الحاصلات على الشهادات الجامعية.
اللغة التي كتب بها قانون تنظيم مهنة العدول جاءت بصيغة المذكر وجعلت التأويل ينحو هو الآخر منحى ذكورياً. ولربما هذا هو الذي أدى إلى منع مجموعة من النساء ممن قُبلت ملفات ترشيحهن في مدينة فاس سنة 2010، من دخول قاعة الامتحانات بداعي عدم وضوح النص القانوني الذي يسمح لهن باجتياز المباراة.
كما أن النساء خرجن بكثافة إلى سوق العمل المأجور، واضطرت ظروف الحياة القاسية أعداداً واسعة منهن إلى العمل في القطاع غير المهيكل (ما يقال له الاقتصاد الموازي)، كما توجد فئات واسعة بينهن ممن تعتبرن معيلات لأسرهن. كما أصبحت النساء تلجن مِهَناً ظلت وإلى مرحلة ما بعد استقلال المغرب سنة 1956 حكراً على الرجال، فيمكن فهم السياق العام الذي تم فيه اتخاذ هذا القرار.
النساء والمهن الجديدة
لم يعد وجود النساء محصورا فيما تحملنه منذ الأزل من أعمال وأعباء، والتي لم يكن يتم الاعتراف بها أصلاً كعمل منتج ولا اعترف بمساهمته في الأنشطة المدرة لدخل الأسر، بالضبط لأنها أعمال غير مأجورة وتعتبر امتداداً للدور الطبيعي للنساء والمتمثل في الإنجاب وتربية الأطفال. بل استطاعت النساء، على الرغم من المسؤوليات المنزلية، أن يطورن مهناً خاصة بهن، أصبحت مع مرور الزمن تتميز عما كان الرجال يمارسنه كمهن، ما أدى إلى التقسيم المهني حسب النوع (الجنس)، وتطورت معه تمثلات جعلته تقسيما نمطياً لا يقبل "اختراق" جنس لمهن الجنس الآخر. غير أن التحولات التي عرفها المجتمع خصوصاً خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، أدت وبشكل تدريجي إلى ولوج النساء إلى مهن جديدة غير معتادة بالنسبة لجنسهن. وهذا شمل المهن التقليدية، مثل الحدادة والسباكة والبستنة والجزارة وسياقة القطار والحافلات العمومية وغيرها من المهن التي ارتبطت بالرجال. كما أن تعليم الفتيات سمح لهن باقتحام مجالات مهنية جديدة من بين تلك التي تتطلب كفاءات وقدرات معينة كالتدريس والتمريض، وهي في جزء منها مرتبطة أساسا بالأدوار التقليدية للمرأة/الأم (التربية، العناية بالصحة).
اقرأ أيضاً: الحركة النسائية المغربية.. ثلاثة أجيال وثلاثة وجوه
غير أنه ومع تزايد تعليم الفتيات، كماً وكيفاً، ومع تمكنهن من ولوج مختلف أسلاك الدراسة، بما فيها السلك الجامعي العالي، أصبحت ظاهرة تأنيث الوظائف الجديدة أمرا شبه عادي. فعدا مهنة ساعي البريد ومجالات الأمن (شرطية)، تمكنت النساء من ولوج عالم الطيران (ربانة) والتعليم الجامعي والبحث العلمي ومجالات الكتابة والتأليف والفن بمختلف تعبيراته، كما تواجدن بكثافة في ميدان الطب الذي أصبح عددهن متجاوزا بشكل كبير لعدد زملاءهن الرجال، إضافة إلى مجال الهندسة بمختلف فروعها، وسلك القضاء والمحاماة والتوثيق (Notariat) وغيرها من المهن والوظائف المرتبطة بمجال إعمال القانون والعدالة.
المكتسبات
هناك دور كبير قامت به الحركة النسائية المغربية في التنبيه إلى التناقض بين التحولات التي تعرفها أوضاع النساء المغربيات والقوانين المؤطرة لها. إذ وبغض النظر عن الترافع القوي من أجل إصلاح قانون الأسرة، ومراجعة عدد من القوانين التمييزية الصارخة، ناضلت الحركة من أجل وصول النساء إلى مراكز القرار السياسي، بعد أن لوحظ أنهن كن شبه مغيبات عنها. كان لهذا النضال إيجابياته في تبني مبدأ المناصفة في دستور 2011 وإدماج مبدأ الكوتا في القوانين المنظمة للانتخابات التشريعية والجهوية والمحلية. ويلاحظ العدد المتزايد للنساء في مختلف هذه الفضاءات، مضاف إليه تعيينهن في مناصب حكومية (وزيرات) وديبلوماسية (سفيرات) بل واقتحامهن لمناصب إدارية وأمنية عالية.
كان للنقاش العمومي الذي واكب النضال من أجل إصلاح قانون الأسرة الأهمية الكبرى، وهو الذي تقاطبت حوله رؤيتان ومنهجيتان فيما يخص المرجعية الدينية: مرجعية متشبثة بحرفية النص ورفض التعامل مع معطيات الواقع في تحولاته واعتبار النص صالح لكل زمان ومكان في قطعية دلالته، ومرجعية تعتمد اجتهاد العلماء المتنورين والفكر المقاصدي وتنخرط فيما يسمى بتجديد الفكر الديني.
فكرة أن النساء ناقصات عقل ودين، التي يتم اعتمادها والترويج لها، لم يعد يصدقها أحد، بالضبط لأن النساء أثبتن واقعياً وبالملموس قدراتهن العقلية والذهنية مثلهن مثل الرجال. فالذكاء والعقل والحصافة هي مسائل فردية متاحة للجميع، من بين الرجال كما ضمن النساء..
وقد تمّ قرار إصلاح المدونة من خلال تبني منهجية التوفيق بين المذهب المالكي، المعتمَد تاريخيا في المغرب، وبين التزاماته الدولية في مجال حقوق الإنسان، وهو التوفيق الذي ساعد على مراجعة عدد من بنود المدونة القائمة على التمييز بين الجنسين، على الرغم من التجاء البعض وفي كل مرة طرحت قضية من القضايا المرتبطة بوضع النساء، إلى القراءة الأكثر انغلاقا للنص القرآني، في تحامل واضح ضد كل من "يجرأ" على تقديم اجتهادات تخرج عما اعتاده السلف الصالح. حصل هذا مع بداية النقاش حول مراجعة القانون الخاص بالإجهاض، ومع التوصية التي أصدرها "المجلس الوطني لحقوق الإنسان" حول الإرث، وها هو اليوم يعود من جديد مع قرار السماح للنساء بولوج خطة العدالة (العدول). الحجج والمبررات نفسها والرفض نفسه والمقاومة نفسها لكل القرارات الرامية إلى التقويض التدريجي للنظام الأبوي وللهيمنة الذكورية وللمس بامتيازات ذكورية ومصالح أريد لها أن تبقى حكراً على الرجال.
خلاصة
السماح اليوم للنساء بولوج خطة العدالة هو تحصيل حاصل بالنظر لتلك التحولات العميقة وبالنظر كذلك لتزايد الطلب النسائي على الحصول على الحقوق نفسها وعلى فرص متكافئة. لقد أصبح تشبث البعض بمقومات نظام الهيمنة الذكورية والتغطية عليه دينيا ضرباً من ضروب التناقضات بين التمثلات والخطاب وبين الواقع الذي لا يعلى عليه. إن فكرة النساء ناقصات عقل ودين التي يتم اعتمادها والترويج لها لم يعد يصدقها أحد، بالضبط لأن النساء أثبتن واقعياً وبالملموس قدراتهن العقلية والذهنية مثلهن مثل الرجال. فالذكاء والعقل والحصافة هي مسألة فردية متاحة للجميع، من بين الرجال كما ضمن النساء.
والسماح للنساء بولوج خطة العدالة هو سقوط آخر المعاقل المؤطرة شرعياً (دينيا) والتي أفلتت اليوم من قبضة الهيمنة الذكورية.