"حفرة خراء" هو النعت الذي استخدمه الرئيس الأميركي ترامب لوصف إفريقيا ومهاجريها إلى بلاده، قائلاً إنه يُفضِّل استقبال مهاجرين من النرويج! وإن كان الرئيس الفرنسي لم ينطق بشتيمة بشعة وسوقية إلى هذا الحد، إلا أنه وفي اليوم ذاته عملياً استعاد التأكيد على خطته/ موقفه السيئ من مسألة الهجرة الى بلاده، ونسبها هنا للمفارقة في غاية الضعف. في خطابه في مدينة كاليه شمال فرنسا التي أصبحت رمزاً لمعاناة المهاجرين ولاضطهادهم وبعد التفكيك العنيف منذ عام ونيف لـ"دغلها" الذي حوى 8 آلاف مهاجراً يسعون للعبور الى بريطانيا القريبة، هاجم ماكرون المنظمات الانسانية التي تُسعف هؤلاء البؤساء واعتبرها تمارس "المزايدة" ليس إلاّ، بدعوى أنها تعرقل خططه لتنظيم الامر.
لا يمكن للحذلقة أن تغطي طبيعة الموقف ذاك، ولا يمكن أن تموه عليه اللعبة البهلوانية المجسدة في صيغة يلخص بها ما يعتبره "التوازن" ما بين "الضبط الجمهوري" وهو صارم و"الفعالية الادارية" من جهة، و"االواجب الانساني" المتعلق بالتعاطف من جهة أخرى.
وإن كان ترامب قد استفز القارة السمراء فطالبه سفراء دولها الـ54 في الأمم المتحدة في بيان مشترك قاسي اللهجة بالاعتذار ونعتوا أقواله بالعنصرية، فإن نعومة وتهذيب الرئيس الفرنسي لم تحل دون ردود قاسية عليه كانت قد سبقت خطابه الأخير، إذ أن "قانون اللجوء - الهجرة" (علماً أن الامم المتحدة نفسها تميز بين الاثنين وتتجنب إدماجهم على هذا الشكل) وهي الخطة المزعومة، كانت قد تبلورت منذ أشهر، وأعلن عنها وزير داخليته منذ حزيران/ يونيو الماضي. وهي تقوم على فرضية تدّعي التمييز بين الهاربين من الحروب والاضطهاد والهاربين من البؤس أو المجاعة، معتبراً أن الأُول يستحقون استقبالاً لائقاً والآخرين ينبغي إرجاعهم الى بلدانهم! ما سخر منه (في نصوص علنية منشورة) الاقتصادي الشهير جان بيزاني ــ فييري، الذي صاغ برنامج ماكرون المرشح للرئاسة، واعتبره نكوصاً عن وعوده الانسانوية، وحذر جان ــ ماري لوكليزيو، الحائز على جائزة نوبل للآداب، وكان أيضاً أحد أبرز مؤيدي الرئيس، من تشييد حدود ذهنية أفظع من الحدود الجغرافية القائمة، واعتبر في التمييز بين اللاجئين "إنكاراً لا يطاق للانسانية".. فرد عليهما الرئيس بالتحذير من "العواطف الطيبة"، وهي إشارة تتضمن معنيي البله والنفاق.. فيما كان وزير داخليته قد دعا المنظمات الإنسانية الى "ممارسة مواهبها في مكان آخر". وكانت قد وُضعت مسامير وعوائق فوق فتحات المترو الدافئة لمنع المشردين من النوم فوقها، وجرى تنظيم حملات بوليسية لتوقيفهم حتى في مراكز الإيواء الرسمية.. التي باتوا يتجنبونها.
اقرأ أيضاً: من دفاتر السفير العربي | الهجرة واللجوء: العالم مغلق!
يصل أوروبا آلاف المهاجرين من مناطق هي في نهاية المطاف قريبة منها: الشرق الاوسط بمعناه الواسع وشمال افريقيا وبلدان القارة السوداء نفسها أيضاً. وهو حال الولايات المتحدة الأميركية، التي ما زالت أكبر مقصد للهجرة واللجوء في العالم، بحكم تدفق المهاجرين إليها من أميركا الوسطى والجنوبية وكذلك من افريقيا التي وصفها ترامب منذ أيام ب، وهناك على ذلك ملايين المهاجرين في أصقاع أخرى من العالم، إذ تقدر الأمم المتحدة - في تقرير أصدرته منذ شهر بمناسبة اليوم العالمي للهجرة - أن مجمل أعداد من يقيم خارج بلاده قد وصل هذا العام الى 232 مليون شخص (فيما كانوا 175 مليوناً عام 2000)، ما يعادل 3.2 في المئة من سكان العالم، أكثر من نصفهم مستقر في بلدان أخرى، بينما هناك 108 مليون إنسان يهيمون (في هذه اللحظة!) بلا مأوى، مقتلعين من أراضيهم وبيوتهم بسبب الحروب وأشكال العنف المتعدد (من الصراعات العرقية أو الطائفية إلى قمع الأنظمة..)، والكوارث البيئية المدمرة، والتغيير في أنماط الانتاج التي جعلتهم عاجزين تماماً عن تأمين قوتهم، سواء بحرمانهم من الأراضي التي كانوا يزرعونها أو يعيشون عليها، أو ببقائهم جوعى، بلا عمل ولا خدمات الحد الأدنى، في التجمعات العشوائية الهائلة حول المدن الكبرى من بلدانهم، التي يتكدسون فيها في مرحلة أولى من تشردهم.
مسألة النزوح والهجرة هي اليوم واحدة من كبرى المسائل التي تواجه العالم، وأكثرها حدّة بسبب طابعها الداهم والشامل. ولكنها عرضٌ لداء. فهي حصيلة سريعة للغاية ــ ونحن في عصر متزايد السرعة لحد اختلف معه كلياً مفهوم الزمن ــ لمنظومة أخيرة نشأت واستقرت منذ نصف قرن، سميت "العولمة النيوليبرالية"، قامت بتخليع البنى الاقتصادية التي ورثتها عن والدتها، الرأسمالية، وجعلتها "سائلة" أو طيارة، تتبع رأس المال المالي والمشاريع سريعة الربح وتلك القائمة على مضاربات شتى. صودرت أهم الاراضي الزراعية في افريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية لصالح الزراعات الصناعية التي تخدم شركات كبرى كمونسانتو المسوِّقة مثلا للذرة المعدلة جينياً وكِلوغز وغيرهما.. ويجري تسميم الأنهار والبحيرات (والمياه الجوفية والتربة) بالمواد الكيمائية المستخدمة في الصناعات التي أنشأتها في البلدان الفقيرة وتديرها كبريات الشركات، مثلاً شركات النسيج والملابس العالمية، المستفيدة على ذلك من يد عاملة زهيدة الكلفة، ناهيك عن تلك الاستخراجية.. كما أن التغييرات المناخية، من تصحّر وأعاصير وجفاف وتلوّث قد قضت على ما تبقى من قدرة هذه المجتمعات على الاستقرار وتوفير اكتفاء ذاتي غذائي لأهلها.
اقرأ أيضاً: سياسة الموت.. الهجرات والمتوسط وأوروبا
وهذه كلها ليست حروباً تدار بالمدفعية والطيران، علماً أن الولايات المتحدة مثلاً ومعها تحالفها الدولي، انتهكت أرض الرافدين مراراً وتسببت بالقضاء على موارده وعلى الصحة العامة فيه من دون أن يرف للقوة العظمى جفن أو أن تشعر بالمسؤولية أو تسعى لعلاج الأذى الخطير الذي تسببت به حروبها على العراق. بل تقول تقارير علمية وسوسيولوجية جادة أنه لولا الجفاف الذي ضرب منطقة الجزيرة السورية في مطالع الألفية الثالثة، وسط تجاهل ممعن للنظام وانشغاله بالانفتاح وبتفكيك ما كان قد تبقى من خطط عامة زراعية وصناعية لصالح "الحداثة" المضارِبة، لما وقعت انتفاضة الشعب السوري في 2011 (ويمكن تفحص الشروط المماثلة في تونس ومصر..). ولولا المثلين العراقي والسوري معاً وما انتجاه من خراب وفساد في كل المستويات، لما تمكن تنظيم مثل داعش من ارتكاب ما ارتكب.. فأين الحدود بين الحروب وبين البؤس والمجاعات؟ وما هو منبع "حفرة الخراء" يا ترى؟