"يسود استسهال مريع في الكتابة، وأعتقده واحدا من أسباب تخلفنا كما هو أحد مظاهره. الناس لا يقبضون أنفسهم جد، بل وفي أعماقهم يحتقرون مسلكهم ويبررونه بأن «الدنيا» والأمور هكذا. أكيد هناك ما هو مثير، مما يمكن روايته عن واقعنا، ولكن الكسل وسوء المنهج يمنعان تحقيق ذلك لدى الكتاب والباحثين، فلا نحصل على هذه المعرفة. إن رواية ذلك صعب لكنه واقعي، ويجب الذهاب لقطافه».
«أحب هذا الذي يغلي، وإن الكتابة عن هذا أشبه بالجري على رمال متحركة بدراجة».
«ابحث عن كتاب أو باحثين يفرح المرء بعد قراءة نصوصهم... يشرحون نمط العلاقات السائدة».
هذا هو نص الدعوة التي تلقيتها من الدكتورة نهلة الشهال للكتابة في «السفير العربي». وقد تحدثت في افتتاحية الملحق عن «الجاد» و«المتقن»، وهي صفات بديهية يبدو أنه قد جرى الاعتياد على افتقادها. ومنذ ذلك الحين أصقل نصوصي وفق ما يلي:
تعمل العين الثالثة للسوسيولوجي البصاص أربعاً وعشرين ساعة على أربع وعشرين. عين لا تنام وتوصيني باستمرار، تهمس لي:
1. تعودتَ كتابة الرأي. تمرّن لتكتب بشكل مختلف. قارب موضوعك بشكل مختلف. قدم معرفة سوسيولوجية بالمجتمع. صحيح أن المعطيات تثقل النص، لكن بدونها يصير المقال وجهة نظر.. قدم ملاحظة سوسيولوجية عيانية. اربط العام بالخاص. مثلا: كيف يتأثر حارس السيارات أو العامل المؤقت أو من تريد بالسياسات العمومية؟ خذ نموذجا مغربيا على الأرض وجد الصلة بين السياسات والحياة اليومية. هذا موضوع غير مطروق وجيد. كيف تؤثر السياسات العمومية على حياة قطاع أو فرد. خصص ليظهر الأمر فلا يبقى عموميا غارقا في الإنشاء.
2. حين يكون الرأي بكائيا فإنه يصير تعبيرا عن الإحباط ليس إلا. «إن الرث ليس الثوري».
3. عادة يتم استسهال مقال الرأي عبر إعلان موقف مع أو ضد. هذا يستطيع أي فرد فعله. كشف الأسباب هو الصعب. الحقيقة ليست معطاة. فتش عنها. عرّها من حسابات وأهواء ومصالح السياسيين.
4. نحلل ما هو كائن لا ما ينبغي أن يكون. تجنب الحديث عما ينبغي أن يكون، وبالتالي السقوط في الوعظ. آه. انتباه. السوسيولوجيا تدرس ما يجري. ما ينبغي أن يكون، هذا هو موضوع اليوتوبيا.
5. أنت حر في الموضوع، فقط لا تكتب مقالا عنوانه «السماء فوقنا». لماذا؟ لأن هذا ما رآه الجميع، هذا توتولوجيا. فماذا رأت العين الثالثة للكاتب؟ لا يهم الموضوع لكن يهم الأسلوب، كمية المعلومات، المقاربة. التعليل... هكذا ينجو النص من الإنشائية ومن العمومية الفضفاضة.
6. تنبع الحقيقة من الوقائع وليس من فمك. لذا استدل بالأرقام. لماذا؟ لأن الأرقام لا يمكن التنديد بها أو تكذيبها. إن لم يتفق القارئ مع استنتاجاتك فبإمكانه استخدام المعطيات الموثقة والاستشهادات لتشكيل وجهة نظر خاصة به.
7. تذكر قول حسنين هيكل «لا يُقنع إلا ما هو مقنع أولا، وثانيا، تريد إيصال خطابك لا بد أن تتوفر قوة ذاتية موجودة فيك حقا».
8. يستند التحليل الاقتصادي السياسي الاجتماعي على حقائق دقيقة، وإعطاء التفاصيل التي تمنح دسما للإحصائيات. لكن جمّع المعطيات وصُغ فرضية تنقل المعطيات من وضع التبعثر إلى مرحلة النظم والمعمار. بعد توثيق الوقائع أبحث عن تفسير لها. اكشفْ الخلفيات مع معلومات إضافية ذات مغزى.
9. عليك بمتابعة الظواهر السوسيولوجية، على ان تكون ذات صلة بالبنية العامة وبسياقات ما في مجتمعاتنا وليس متابعة الأوضاع السياسية المباشرة، ولكن في نهاية المطاف توجد صلة بين الأمرين. حلل بنى وميكانيزمات السلطة. كيف تتمكن من السيطرة والاستمرار؟ ما هي مواردها وما وسائلها؟ كيف تخدمها القبيلة والريع؟ كيف تحافظ السلطة على التوازنات الهشة؟ كيف توزع الكعكة سمينة كانت أو هزيلة؟
10. تجنب افتراضات غير قابلة للبرهان. قدم الوضع عبر اشتباك المواقف وليس عبر تبسيطه.
11. تناول خصائص سوسيولوجية تشتركون فيها، أنتم المغاربة كليا أو جزئيا مع سواكم. تناول المشترك مع الإشارة للاختلافات أيضا لإبراز مدى اتساع وتنوع المنطقة بين المحيط والخليج. خفف من محلية النص بجعله قضية عامة مشتركة للمنطقة. قدّم ذلك بطرافة حتى حين لا يكون الموضوع طريفا. اجمع بين الظرف وإيراد المعطيات. الهدف إثارة ردود فعل القراء ومشاركاتهم. مثلا وقع اغتصاب وتزويج وانتحار شابة فقيرة. وهذا يتعلق بتطبيق مدونة الأحوال الشخصية. ولا بد أنه بعد ثماني سنوات من إقرارها يجب تقييم آثارها ومدى تطبيقها والصعوبات الخ... ما الفارق بين وجود نص قانوني على أهمية ذلك، وبين ما يجري في الواقع. ثم ان الذي يحدد الاغتصاب من عدمه ليس كبر أو صغر السن بل الإرادة...
12. لا لمقالات عمومية لا تخص حالات بعينها! لا لتحويل الفقر الى «حالة» بل لرصد الإفقار كـ«بروسس» او آلية وسيرورة. لا بد من دراسة حالة محددة في اطار بلد بعينه. ارصد حدثا بدلالات قوية ويتفاعل. أنت لا تخاطب القارئ المغربي فقط لذا لا تغيب الوقائع الضرورية لقارئ مشرقي أو خليجي أو حتى عالمي لا يعرف شيئا عن الموضوع. مثلا تفكيك مدن الصفيح وأبعاده العمرانية والسوسيولوجية والاقتصادية. له مثيلاته في كل دول المنطقة.
13. لا تركز على مكتبك، أطل من النافذة: ماذا يجري في الشارع اليوم؟ تابع ما يسمى ثقافة الشارع وكل جديد فني بمقدار ما هو موصول بالتغيير... شاهد الأفلام المغربية وقم بقراءة سوسيولوجية لسينما المغرب في العقدين الماضيين واشدد: سوسيولوجية وليس ثقافية أو فنية.
14. اجتهد للعثور على الدال واللماح للكتابة عنه. الغرافيتي الموجودة في شوارع المدن المغربية هل يمكنك بسهولة استنطاقها: ما الذي تقوله وإن أمكن أين هي وفي أي مناسبة؟
15. اكتب عن أمر تحبه أنت. تجنب الموضوع الذي لا يقع ضمن هواك. اتركه، لا تقترب منه. اكتب في ساعة صفا فلا تتزاحم الأفكار عندك فيطرد واحدها الآخر.
16. لا تكتب دفعة واحدة، حضّر، فقد يكون قلب المقال جيدا ولكنه مقال مائل وبحاجة للاشتغال عليه قليلا لموازنته ولدعمه. روض نفسك على طول المراجعة والصياغة. يقول يعقوب بن إسحاق الكندي إن أشرف ما في الفلسفة الأولى الباحثة عن العلة اكتشاف الحجج. وحسب رينيه ديكارت لا يحصل هذا بالصدفة.
17. ابن النص بطريقة متينة. غلب الحكي عن الظاهرة بشكل ليس روائيا بل بدلالاتها الملموسة والمخصوصة عن التفكك واليأس. ليكن الحكي تفسيرياً.
18. عليك مفهمة الظواهر للارتقاء من غباء الوقائع إلى تجريدية المفاهيم. يضعف النص حين يغيب معجم ومفاهيم راسخة حول الموضوع. في التحليل، انطلق من النظريات لا من الرأي الشخصي لكشف ما لا يُرى. فالحقيقة ليست جاهزة ومعطاة بل يجب إماطة اللثام عنها. يجب كشف العلاقات. فالمهم ليس الأشياء والظواهر، بل العلاقات فيما بينها.
19. طيب، هذه هي المعطيات والمفاهيم، فأين زاوية المقاربة التي تعكس بصمة الكاتب؟
20. يأتي جواب العين الثالثة في ختام هذا التعداد. إنها جرعة حدس في انتقاء الموضوع ومقاربته من زاوية ذوق الكاتب. إنها تحليل المعطيات مغموس بنكهة سخرية متولدة عن سخط على محاولات التضليل وغياب العدالة في الوطن الحبيب.