عام فيه يغاث الناس وفيه يفرحون

مسافرٌ، زادي الخيال، جئتُ إلى بيروت لقضاء ليلة رأس سنة 2054. بيروت الآن هي عاصمة السلام لأن اللبنانيين عرفوا قيمة الدم مبكراً. فما بدأ في ليبيا في 2011 بدأ في لبنان سنة 1975، وقبلها مرات وإن على نطاق اضيق. أزور بيروت للمرة الخامسة في حياتي. كانت المرة الأولى في آذار/مارس 2014. حينها قلت لمدير عملي سأذهب للبنان، فقال لي «ستقتلُ في انفجار». كما ترون، فقد شخت. لقد
2014-03-26

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
عن الانترنت

مسافرٌ، زادي الخيال، جئتُ إلى بيروت لقضاء ليلة رأس سنة 2054. بيروت الآن هي عاصمة السلام لأن اللبنانيين عرفوا قيمة الدم مبكراً. فما بدأ في ليبيا في 2011 بدأ في لبنان سنة 1975، وقبلها مرات وإن على نطاق اضيق.
أزور بيروت للمرة الخامسة في حياتي. كانت المرة الأولى في آذار/مارس 2014. حينها قلت لمدير عملي سأذهب للبنان، فقال لي «ستقتلُ في انفجار».
كما ترون، فقد شخت. لقد تغيرتُ أنا كما تغيرت المنطقة بين المحيط والخليج. هذا تقرير عن وضع شخصي وعام. سأحدثكم عن نفسي قبل أن أحدثكم عن حال المنطقة اليوم.
أقف بصعوبة بسبب آلام الظهر التي سببتها لي ساعات المطالعة والكتابة ومشاهدة الأفلام. صوتي بح. جئتُ بالطائرة. صحيح يوجد قطار ينطلق من الدار البيضاء في اتجاه مدريد، يعبر نفق جبل طارق ليصل أفريقيا بأوروبا. لا يوجد قطار بين الدار البيضاء وبيروت. الجدران لم تسقط كلها بعد. فمنذ أيام قليلة فقط، بدأ هدم جدار الكراهية الذي فصل المغرب والجزائر لقرن كامل. وقد كان الجفاف شديداً والحرارة مسعفة، سهّلتْ تجفيف مستنقعات الحقد بين الجارين.
كما ترون، فقد شختُ. شختُ ولم تنفعني الأدوية، لجأت للأعشاب وشفيت. وقد اكتشفت فياغرا مغربية أسوّقها في دكان على رصيف الانترنيت. جئت هنا لأبيع لكم خبرتي.
لماذا؟
في الأربعين سنة الأخيرة، انقرض الكتاب في أمة إقرأ. كل شيء ينمو إلا الكتب والثقافة. هيمنت أخبار الفضائح والجرائم على الصحف. تربعت حفيدة الراقصة صافيناز على عرش الفن في مصر. صارت المسلسلات الصومالية منتشرة بكثافة. توحدت إمارتا قمعستان وجهلستان. في مسابقة ثقافية، سُئل دكتور عن محمد عبده وجمال الدين الأفغاني. أجاب: الأول صاحب أغنية «الأماكن كلها مشتاقة ليك»، والثاني من طالبان. في وضع ثقافي كهذا، يجب أن يكون المرء أعمى ليستمر. لذا طلقت السينما بعد أن رهنت بيتي لتصوير فيلم ليس فيه تهريج. أفلستُ وقضيت سنة في السجن فتُبتُ من الثقافة.
البديل؟
الشيء الوحيد الذي يتزايد برقمين في العالم العربي هو عدد متصفحي مواقع الجنس. رقمان، رقمان. هذه هي الحقيقة الوحيدة التي أنقذتني من عفتي الثورية. لذلك غيرت الحرفة بعد أن عرفت شكل المستقبل. صرت عشّاباً. ما أمراضكم؟ لدي هنا حقيبة لمساعدتكم. لقد اخترعت فياغرا من الأعشاب. بفضلها اشتريت مزرعة. من منكم اشترى مزرعة بفضل الثقافة؟
الآن لدي رصيد في البنك. الحمد لله، تباع الفياغرا أكثر من الجرائد والكتب. أفكر في خطبة حفيدة الثنائي الجميل كاظم الساهر وهيفاء وهبي.
تضحكون؟
أنا أحدثكم من اللاشعور وليس من العقل.
لا تزيد نسبة العقل لدى زبائني عن عشرة في المئة. والباقي ظلمات اللاوعي.
قبل أن آتي لأحدثكم، جلست في بهو الفندق أحرر على هاتفي وصفة أعشاب لزبون مهم. المشكل أن هاتفي مصاب بالزهايمر، أكتب فيه 2054 فأجد فيه 1954. على صفحة هاتفي خبران عاجلان: تعرض جمال عبد الفتاح السيسي لمحاولة اغتيال في السويس. تزايد عدد القتلى في الشرق الأوسط. كل عام يقتل أكثر ممن قتلوا في العام السابق.
هذا خبر ممل بالنظر لما يجري في المنطقة.
بين 2014 و2044 عاشت المنطقة حرب الثلاثين سنة على طريقتها. تم تقسيم المقسم وتجزيء المُجزأ. تحققت نبوءة معمر القذافي.
استمرت المنطقة بلا قادة لهم كاريزما، استمر القادة الذين تشوهت وجوههم من كثرة الغمز في ممارسة التبرّج السياسي. يقاتل كل واحد بذراعه لحماية نفسه وطائفته. تجري محاولات القضاء على طائفة بمدفع. قال نابليون إن هذا مستحيل. لكنه جاري تجريب المُجرب. كل طائفة وحزب يضرب ويبكي، تريد كل طائفة أن يكون البلد مرآة لها وحدها.
هدف المتقاتلين؟
سحق الخصوم، الإخضاع والسيطرة... كلما سال الدم ظن المتقاتلون أنهم على حق. من يعترف بأخطائه يغامر بفقد هويته. الهوية أهم من البشر. سحق العنف الفرد والمجتمع. مات آلاف الرجال. ثلاثة أرباع المجتمع نساء. بدأ تجنيد البنات للجهاد. وللضرورة، جاء شبان من أميركا لممارسة جهاد النكاح. يتزوج كل شاب عشر مقاتلات في اليوم. وهنا بدأتُ أصدّر الفياغرا التقليدية من ميناء طنجة. أصدرها مجاناً إلى غزة لتشجيع النسل. هذا اضعف الإيمان.
في الشرق الأوسط، دائماً تلعب أيدي غير مسؤولة، أيدي خارجية. كلما زاد النزاع الإيراني السعودي وجدت الدول الصغيرة في الشرق الأوسط مساحة تنفس. بويع جمال عبد الفتاح السيسي رئيساً لمصر. وشعار المبايعين: كرهنا الحرية بسبب الثورة.
في 2044 تحقق الهدف: تحقق الحنين لما قبل الدولة، فتوقف قتال اللاعبين المنهكين. بدأ عقد جني ثمار الحقد الضاري، عقد بناء الجدران من الحجر وعظام الأعداء الذين يشبهوننا حتى الضجر. جاء المال كثيراً لبناء الجدران. المال نفطي والإسمنت أميركي، بنت كل قبيلة وطائفة جدراناً حولها.
حين تلاشى غبار وصوت المعارك تكشّفت الحقائق. البشر يكرهون الجدران. قل القمح خلف الجدران فتحركت غريزة البقاء، تراجع الحماس العقائدي. صحيح الهوية مهمة، لكن القدرة على البقاء أهم.
جربت الشعوب الإخوان والجهاديين، اكتشف الناس أن المتشددين قد اعتقلوهم خلف الجدران. عصفت بذاءات الجدل الديني بالمقدس فانفتح طريق العلمانية. انشق فصيل إخواني شبابي، شكل حركة إصلاح ديني وأقام تمثالا لأدونيس في ميدان رابعة العدوية بالقاهرة.
خذل العرب فلسطين، لكن الفلسطينيين استرجعوا الأرض بفضل الديموغرافيا فتوقفوا عن المطالبة بدولة مستقلة وصاروا يطالبون بحق التصويت. وقد صارت زهوة ياسر عرفات رئيسة لجمهورية «إسراطين».
زاد الآسيويون المولودون في الخليج عن عدد السكان. تضعضعت القبيلة. تحررت أميركا من الحاجة لنفط الشرق الأوسط فعجز الشيوخ عن استئجار من يقاتلون به. صارت النساء المتعلمات العاملات أكثر من الرجال. اخترع مهندس شاب غسالات للضمير تعمل بماء المطر.
تعلمت الشعوب نبذ الصفاء لأن الهجين شديد الخصوبة، زادت تمارين التعايش مع الأشباه والمخالفين. هذا عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون...
إلى اللقاء في 2073. حين تكمل جريدة السفير قرناً.

مقالات من المغرب

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

للكاتب نفسه