ثمة سبب وحيد يجعل من التمرين الشائع القائل بمراجعة أحوال السنة المنقضية مع كل نهاية لها، شيء مقبول بل ونافع: محاولة استعادة المعنى.
ليست هذه االمراجعة التي نقوم هنا مجرد فولكور، بل يمليها ويوجّهها أن ذاكرة الناس قُصِّرِت عمداً وبالتعويد، بفعل كمٍّ مهول من المعلومات المتفاوتة والمختلِطة وسريعة البث والتقليب بحيث يصبح المهم والتافه سيان، وكذلك بفعل التسطيح تحت مسمى "الموضوعية"، ما يفترض تجنب التحليل والتأويل، وما يحول دون ربط المعطيات ببعضها (وإلا بدا مرتكِب ذلك بليداً ثقيل الظل، ومفوتاً أو "أولد فاشن"، والأطرف، متهَماً بأنه "أيديولوجي"). ثم أن الناس فقدت الصبر علاوة على الذاكرة والسعي للمعنى، فلا يجب الاطالة وإلا ضجر القارئ وانفكّ عن الصفحة التي يَقيس مدة البقاء عليها "الجهاز الذكي"، سواء كان حاسوباً أو محمولاً آخر، فيعاقِب مَن ليس على صفحته تردداً كبيراً ومن لا تعرف صفحته إلا المرور الخاطف.
ولأن وسائط التواصل الاجتماعي قد انتشرت بشكل كبير ويسير، و"تدمقرطَ" النشر، فقد أضيف عامل آخر الى عملية تضييع المعنى ذاك، وهو التركيز الفائق على الذات الفردية اللاهثة وراء التميّز وسط المعمعة، فصار معيار الـ"لايك" طاغياً، وانطبق ذلك حتى على وسائل الاعلام التقليدية التي تسعى لجذب الجمهور بأي ثمن، ما يحط بالضرورة من مستوى ما تُقدِّم، بسبب الاستعجال والتنافس غير المحدودين وبسبب الافتقاد الى مقاييس أخرى غير تلك الطاغية.
تناول العديد من الفلاسفة وعلماء الاجتماع هذه الحال التي صارت ايديولوجيا العصر الراهن، والتي تولِّد مفارقات مهولة على مستوى العالم، بين ما يبدو قفزة في تطور البشرية (تماماً كما كان اختراع الدولاب وقبله اكتشاف النار)، وفي الوقت نفسه إنهيار أجزاء كبيرة منها نحو البؤس المطلق والافقار والنزاعات الدموية متعددة الاشكال، بل ووصول البيئة الى مستويات من التلوّث صارت تهدد، ليس فحسب بالأمراض المتكاثرة، بل وجود الكرة الارضية نفسها. ويكفي ان نطّلع على أعداد النازحين عن مناطقهم في العالم (108 مليون بشري اليوم على الطرقات، تائهين في القيافي وغارقين في البحار..)، وأعداد الجياع (800 مليون بشري بحسب تقرير أخير للامم المتحدة)، واتساع أعداد الذين بلا مأوى ("هوملس") في البلدان الثرية نفسها كالولايات المتحدة الاميركية وأوروبا الغربية، وتعاظم الفوارق فيها وانهيار الطبقات الوسطى وإشتداد البطالة، وإرتفاع عقيرة التمييز العنصري على أساس اللون والدين..
وهذه الظواهر كلها مرتبطة بقوة ببنية اقتصادية هي طور جديد من الكيفية التي تنتَج بها الثروة اليوم والكيفية التي يتم فيها التحكم بتوزيعها. وهي كذلك مرتبطة ببنى سياسية متحولة لتتلاءم معها. وهذه الحال من فقدان الذاكرة والمعنى ومن التقطيع واللحظوية.. هي حصيلة لتلك البنيتين الاقتصادية والسياسية، بمقدار ما هي شرط ضروري لاستتبابهما. كما أن التطورات التقنية التي اتاحت كل ذلك (ما يسمى "ثورة الاتصالات") ليست هي أصلها، وعلى أية حال فهي لوحدها لا تفسرها.
.. نستعيد إذاً في "السفير العربي" على امتداد هذا الأسبوع الأخير من 2017 أهم ما نشرناه من نصوص تحليلية تتعلق بما وقع في منطقتنا: تطورات القضية الفلسطينية أولاً، التي ما زالت حيَّة يصارع أهلها وأنصارها على الرغم مما يقارب القرن من محاولات (جبارة) لسحقها. ونبين كيف أن حدثها الأخير على سبيل المثال، أي اعلان ترامب تبنيه للقدس عاصمة لاسرائيل، ليس وليد لحظته، ولا هو منفصل عن شغل طويل وحثيث للوصول الى هذه "اللحظة"، اسرائيلياً من جهة، وعلى مستوى عالمي وإن بغير تقصّد أحياناً للهدف بذاته من جهة ثانية، وبفعل مواقف الدول العربية من المسألة الفلسطينية، وصولاً الى تواطآتها مع واشنطن وتل أبيب ثالثاً، وأخيراً بفعل القصور الذاتي الفلسطيني والمقاوِم الذي فشل في إنشاء منظومة لمجابهة أفعال هذه القوى ولتصليب عمله وامتلاك رؤية لأفقه..
اقرأ أيضاً: فلسطين 2017: قضية حيّة وتصارع!
وهكذا تصبح مقاربة أحوال مصر مثلاً تمتلك عدة وجوه متداخلة ومتفاعلة، حيث الإفقار والقمع والتيئييس، الثلاثية التي سادت طويلاً وأدت الى انفجارات شعبية لعل أكملها حتى الآن انتفاضة "يناير 2011".. هذه الثلاثية التي ما زالت مشتغلة، تحمل في طياتها ودينامياتها تمكيناً لاسرائيل وأميركا من المسألة الفلسطينية، وذلك بغض النظر عن التآمر المباشر نفسه، وان ذلك هو بالأهمية نفسها لرصد زمن الثورة المضادة التي تسعى لخنق الوميض، واستعادة "النظام"، بفضل قمع عارٍ غير مسبوق لكل من يفتح فمه، وهو ما يؤجج في الوقت نفسه بؤر عنف مسلح خطير، وكذلك بفعل إجراءات نيوليبرالية في كل الميادين، وصلت لحد بيع جزء من التراب الوطني لمن يدفع، وتتجه لمزيد من التواطؤ مع اسرائيل.
وهكذا أيضاً في ما يخص التطوّرات في السعودية ودول الخليج، وأثر الحرب الامبريالية التدميرية على العراق ثم تسييد نظام المحاصصة الطائفية والفساد العظيم المصاحب له في تخريب مجمل أوضاع المنطقة ودفعها الى منزلقات الاستقطاب المذهبي القاتل..
نطبِّق إذاً "التقاطعات" (وهو اسم الهيئة التي باتت منذ مطلع 2017 تُصدر "السفير العربي"، بعد اغلاق جريدة "السفير") لفهم الواقع ولتبيان إمكان تغيير معادلاته، وهي حصتنا من هذه الورشة التي لم تتوقف، وإن كانت تخبو أحياناً بفعل الإعياء والأثمان الباهظة المدفوعة.. بدليل أن شابات وشبان فلسطين لم يُدجَّنوا، وبدليل التسيير الذاتي الذي قرّره سكان واحة جمنة في أقصى جنوب تونس مثلاً، وبدليل مئات المبادرات المشابهة (في روحها وليس في حَرْفيتها) التي تزهر كل يوم وفي كافة الارجاء:
البحث وسط الخراب عما ليس خراباً! ولا خيار آخر.
الافتتاحيات الأكثر قراءة في العام 2017