تفاجأت الصحافة المحليّة في العراق بردة فعل مالكي المدارس الأهلية على قرار لوزارة التربية العام الماضي. جاء القرار ليمنع عمل هذه المدارس إن تمّ استعمال أسلوب البناء منخفض التكلفة والمعروف بـ"سندويش بانل" (جدران وسقوف من صفائح الالمنيوم) في تشييدها. ردة الفعل الواسعة من جانب المالكين اوضحت للرأي العام أن 90 في المئة من هذه المدارس هي أقرب للأكشاك أو "الكرفانات"، وفي أحسن التقادير هي بيوت سكنية تمّ تقسيم حجراتها بجدران عازلة لتستوعب عدداً أكبر من الطلبة كل عام.
بحسب آخر إحصائية رسمية ظهرت العام الماضي، فإن العراق اليوم يحتوي على 1326 مدرسة أهلية تغطي ثلاث مراحل تعليمية أولية، تعرف بالابتدائية والمتوسطة والاعدادية. ما يقارب الـ 125 ألف طالب وطالبة يتلقون المناهج التعليمية الرسمية في هذه المدارس في وضع لا يختلف كثيراً عن المدارس الحكومية المجانية سوى في اكتظاظ الأخيرة على عكس الأولى.
.. ما لا يعني أن المدارس الأهلية كلها سيئة. فمنها ما تمّ بناؤه على مستوى عال مع اختيار مدرّسين أكفاء، إلاّ أن هذه النوعية قليلة، وكلفة الدراسة فيها عالية جداً، وتشير إلى تمايز طبقي واضح. أما غالبية المدارس فهي بيوت سكنية بسيطة يعمل فيها معلمون ومدرسون متقاعدون أو ممن لم يحصلوا على فرصة العمل الحكومي وتكلفة الدراسة فيها تقترب من 1200 دولار سنوياَ لكل طالب.
أرباح لكثير من الجهات
يشكل الاستثمار في التعليم الاولي فرصة كبيرة للدولة كي تتربح، فهذه المدارس تدفع مبالغ كبيرة في سبيل الحصول على إجازة رسمية أو تجديد تلك الإجازة. وعلى الرغم من أنها تدفع رواتب ضئيلة لكوادرها التدريسية، الا أنها تربح بشكل وفير من الطلبة الوافدين اليها هرباً من اكتظاظ التدريس الحكومي. حاولت الحكومات المتعاقبة في العراق بناء مدارس جديدة وكذلك تعيين كوادر تدريسية دعماً للتعليم المجاني، المقر منذ عقود، لكن الفساد في المشروعين أطاح بهما مراراً حتى جاء التقشف الذي فرضته أسعار النفط المنهارة ليغلق الملفين الى أجل غير مسمى.
نحو 12.421 ألف من الكوادر التدريسية بحسب إحصائية حكومية يديرون العمل في المدارس الاهلية، وهو ما يوفر فرصة لاستيعاب البطالة المتفشية. وتتبع هذه المدارس فئات ثلاث من المستثمرين، فهناك التيارات الدينية، وهناك الاحزاب السياسية، وهناك رجال الاعمال المتنفذين. وليست هذه الفئات منحصرة في طائفة واحدة.
اقرأ أيضاً: الجامعات في العراق.. بين العمامة والطربوش
الجانب الآخر من الدراسة في العراق هو التعليم العالي والذي يمنح شهادات البكالوريوس والدبلوم، وهو كذلك موزع على صنفين: حكومي مجاني إلى حد كبير، وأهلي عالي التكلفة. تمّ الغاء التعليم الاهلي منتصف سبعينات القرن الماضي، ثم عادت الجامعات والكليات الاهلية الى الظهور في العراق أواخر الثمانينات، وبقيت قليلة العدد رصينة المحتوى حتى منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة. خلال القرن الماضي كانت الجامعات الأهلية منحصرة في الأقليات الدينية وتتم رعايتها وتمويلها من قبل هيئات عالمية، كنسية في الغالب. وقد بدأت خلال العقد الماضي جامعات وكليات بالتناسل تنتهي اسماؤها بمصطلح "الاهلية". وبحسب إصدار رسمي، فإن العراق اليوم يحتوي على 66 جامعة وكلية ومعهد أهلي تعترف وزارة التعليم العالي بها بالإضافة الى 15 كليّة ومعهد لم تعترف بها الدولة حتى اللحظة. وعلى الرغم من أن شروط انشاء جامعة أهلية صعبة الى حد كبير، من قبيل ضرورة ألاّ تقلّ مساحة الكليّة الواحدة عن 7500 متر مربع، ومساحة القسم عن 2500 متر مربع، الا ان هذه الشروط يتم دوماً القفز عنها.
لماذا الجامعات الأهلية؟
إلتحاق الطلبة بالجامعات والكليات الأهلية له أسباب تختلف الى حد كبير عن إقبال الطلبة على المدارس الاهلية. الغالب في موضوع قبول الطلبة في هذه المؤسسات أن معدلاتهم متدنية ولا تمنحهم فرصة المنافسة في الجامعات الحكومية، بالاضافة الى أن هذه الجامعات مناسبة لمن يريد النجاح في الدراسة بسهولة يصفها البعض بأنها باب للفساد. تصدّر هذه الجامعات سنوياً المئات من الخريجين الى عالم البطالة، بعد ان تستوفي منهم على مدى أربع سنوات ملايين الدنانير.
مقرات الجامعات هذه تتفاوت بين البناء الفخم والواسع، وهو الأندر، وبين البناء العمودي الواطئ فنياً والمتشابه بواجهاته ذات الالوان الفاقعة والتي هي أقرب للشركات أو الفنادق منها لمؤسسات التعليم.
حاولت الحكومات المتعاقبة في العراق بناء مدارس جديدة وكذلك تعيين كوادر تدريسية دعماً للتعليم المجاني، المقر منذ عقود، لكن الفساد في المشروعين أطاح بهما مراراً حتى جاء التقشف الذي فرضته أسعار النفط المنهارة ليغلق الملفين الى أجل غير مسمى..
لم يعد مستغرباً هذه الأيام أن تشاهد تظاهرة لطلبة في بغداد يطالبون الحكومة بالاعتراف بالجامعات أو بالكليات الأهلية التي تخرجوا منها. يعلم الطلبة جيداً أن الجامعة التي أنفقوا مدخراتهم على الدراسة فيها ليست مؤهلة لإصدار الشهادات، خصوصاً مع قرار وزارة التعليم ربط قبول الطلبة في الجامعات الجيدة بشروط نظيراتها الحكومية. لكن هؤلاء الطلبة يأملون بأن يتم تمرير شهاداتهم غير المعترف بها وسط جو الفساد الخانق الذي يعيشه العراق. بل ان غالبية التظاهرات حدثت بتحريض من تلك المؤسسات التي يملكها سياسيون سيوافقون لاحقاً على شرعية هذه الجامعة أو تلك نزولاً عند رغبة الشعب المتظاهر!
دق ناقوس الخطر لدى الرأي العام العراقي مع إفتتاح كلية طب أهلية، وتطور الأمر الى أكثر من عشرين كلية لطب الاسنان والصيدلة. هذه الاختصاصات التي يُعد الخطأ فيها مميتاً جعلت المهتمين في غاية القلق من تسرب الفاسدين، طلبة كانوا أو تدريسيين، الى حياة الناس مدججين بشهادات لا قيمة لها.
اقرأ أيضاً: عن الفساد والفاسدين في العراق..
توفّر الجامعات والكليات والمعاهد الأهلية الكثير من الأموال للدولة بغاية نيل الإجازة التي تمنح الشرعية وكذلك لتجديدها. غالبية أساتذة المؤسسات الأهلية هم كوادر في الجامعات الحكومية، ممن يملكون الوقت الكافي للقيام بالعملين. الحكومة لم تكتفِ بفرصة الربح هذه، بل اتسع الأمر لتدخل في منافسة مع سوق الاستثمار في التعليم عن طريق فتح باب الدراسات العليا مقابل تكلفة مالية عالية لمن يصعب عليهم ولوج هذا الجانب في الجامعات الرسمية المجانية.
أخطر ما يلمسه المراقب لانتشار التعليم الأهلي، الاوّلي منه والأكاديمي، هو غياب الرقابة الحقيقية. تدّعي الحكومة عبر وزارتها أنها ترسل المفتشين وتراقب اصدار الوثائق والشهادات، إلاّ أن لا دليل يدعم ذلك، ولم يشهد العراق إغلاق أي مدرسة أو جامعة أو كلية أو معهد غير مرخص أو يشوبه الفساد خلال تجربة تجاوزت العقد. ومع استمرار وتوسع الظاهرة، فإن أعداد الطلبة المتخرجين تزداد، ومعها نسبة البطالة الهائلة، في مشهد مؤلم لا ينتهي.