المغرب: الإسلاميون فقدوا المسجد ولم يكسبوا المقهى

التاسعة صباحاً في مقهى بحي شعبي. يغيب النادل لبعض الوقت ثم يعود بأربع جرائد. ثبّت صفحاتها ثم وزّعها على الزبائن وتابع عمله. كلما تصفّح أحدهم الجريدة ولعب في شبكة كلماتها المتقاطعة مرّرها لجاره... هكذا يحرص أرباب المقاهي على جلب الزبائن من عشاق المجانية. بهذه الطريقة تتلقى الجرائد المغربية ضربة اقتصادية كبيرة.النتيجة: يمكن لمرتادي المقهى قراءة الجرائد الأربع في أي وقت من النهار. بل
2014-05-19

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
(من الانترنت)

التاسعة صباحاً في مقهى بحي شعبي. يغيب النادل لبعض الوقت ثم يعود بأربع جرائد. ثبّت صفحاتها ثم وزّعها على الزبائن وتابع عمله. كلما تصفّح أحدهم الجريدة ولعب في شبكة كلماتها المتقاطعة مرّرها لجاره... هكذا يحرص أرباب المقاهي على جلب الزبائن من عشاق المجانية. بهذه الطريقة تتلقى الجرائد المغربية ضربة اقتصادية كبيرة.

النتيجة: يمكن لمرتادي المقهى قراءة الجرائد الأربع في أي وقت من النهار. بل ويمكنهم طلب جرائد الأمس. صار للمقهى أرشيف إعلامي. وبهذا يطّلع الزبائن على المادة الإعلامية في اللحظة نفسها مما يوفر لهم مشترَكا يتجادلون حوله. يقارنون بين العناوين الرئيسية، يستخلصون توجه كل جريدة من خلال من تهاجمهم وممن ينشرون اعلانات فيها. يجعلون المعلومات تتقاطع، فتكمل الجرائد بعضها بعضا، يسمي القراء المواد التافهة "أخبار السوق"، وهي المواد التي تصلح للتعليق، لأن التفاهة تتجدد كل يوم بينما الجد ثقيل. يفرزون الجرائد حسنة النية من الجرائد سيئة النية. السيئة هي التي تنشر الأخبار المنتقاة، وبذلك توجه أكثر مما تخبر. ولتفسير ذلك تنتشر إشاعات كثيفة حول رؤساء التحرير.

حين تصل الجريدة إلى يديّ يكون ورقها قد تهتّك، وهذا يمس حميميتها. عادة أفضل شراء الجريدة وفتحها. أقف أمام كشك الصحف فأحسّ أنني أمام مجرة من النجوم. في التصفح متعة لا تقاوم. لا أحب أن أشتري جريدة ويفتحها أحد قبلي. لكن هذه الأيام صرت أفضّل المجانية.

أكتب عن المكان الذي أقضي فيه جلّ وقتي: المقهى. هنا يستفيد الرجال من خلوة لا تتوفر للنساء. حين يتلقى رجل مكالمة هاتفية من زوجته يقول لصديقه "وزارة الداخلية تطلبني".

في المقهى أستمع وأسجل، وأحيانا أسأل. يلاحظ أن جل الصحف فقدت بوصلتها الأيديولوجية لأن الأيديولوجية صارت منبوذة. الدليل: لم يجلب النادل أية جريدة حزبية. كل الجرائد التي جلبها تعلن أنها مستقلة. مستقلة عن من؟ في العمق كل الجرائد التي جلبها يمينية. يبدو لي أن جلّها صحافة موالية. فكلها مع النظام وبعضها ضد الحكومة التي لا تحكم.

على الصفحات الأولى الكثير من أخبار الجنس والاغتصاب... الجريدة مرآة الشعب. لا يختلف المشهد في المقهى عن المشهد في الصفحات الأولى للجرائد. في المقهى نادلات شابات بسراويل سوداء لاصقة. في الجرائد الشعار هو: تجرأ أكثر لتبيع أفضل. يزيد الجنس من التوزيع، لأن غريزة البشر تشكلت عبر ملايين السنين، بينما لا يزيد عمر الحروف والفكر عن آلاف السنين... من يعرف هذه الحقيقة لن يلوم أصحاب المقاهي على تشغيل نادلات يجلبن لهم المزيد من الزبائن "لغسل عيونهم" كما يقول التعبير الدارج.

وقد تعجب مخرج مغربي من كون الصحافة هاجمته بشدة بعد تصويره لمحجبة في علاقة غير شرعية في فيلم متخيَل. وقال إن الصحافيين يركزون على الفضائح الجنسية لكن يعملون بقاعدة "حلال علينا حرام عليكم"، وأشار إلى أن الجرائد تنشر صور من الكورنيش لمحجبات في حضن عشاقهن. ولكي يقنعني اكثر سألني: ألا تعرف محجبة في علاقة غير شرعية؟ كيف أنكر وفي المقهى حيث أجلس، وخاصة بعد الثالثة عصراً تدخل بنات كثيرات ضمنهن محجبات إلى مؤخرة المقهى حيث هناك ضوء قليل ودخان سجائر كثير.

بعد معرفة أخبار الصفحة الأولى يدخل الزبون الى الصفحات الداخلية للجريدة، أحيانا يجد أن العناوين الضخمة على الصفحة الأولى أكثر من المضمون الفارغ في الداخل. على صفحات الرأي نادرة هي الكتابات التي تترفع عن السجال السهل وتتسم بعمق المفاهيم وغنى الوقائع واتساع أفق التحليل وتماسك الأفكار. فالصحافي المغربي غالبا ما يكتب كما لو كان يتكلم في مقهى، يستند إلى الشائعات التي لا تصمد أمام الفحص، ينقل عن مصادر لا يسميها، تهيمن الثقافة الشفوية على الكتابة الصحافية. لا يَرجع سبب فقر النقاش إلى الرقابة فقط، بل إلى ضعف مهني. إذ لا يحب رؤساء التحرير تشغيل المثقفين.

بسبب هذا الضعف، يفضّل الكثيرون عدم قراءة الجرائد. يمضون الوقت يفحصون الشاشات الصغيرة التي يخرجونها من جيوبهم، لكن متعة الجريدة الورقية لم تنقرض. فما زالت الصحف تصدر رغم انتشار فكرة مفادها أن وسائل الإعلام تقتل بعضها بعضا. مثل أن الراديو سيقتل الصحف. والسينما ستقتل الراديو. والتلفزيون سيقتل السينما، والانترنيت سيقتل كل ما سبق. بل لقد زعم إميل زولا أن الصحافة تقتل الأدب. والحقيقة أن كل وسائل الإعلام السابقة وجدت لها فرصة هائلة في الإنترنيت...

ظهرت أول جريدة مغربية في طنجة في 1870، وقد كانت مقربة من المفوضية الفرنسية. كانت الصحافة جزءا من السياسة وما زالت. في هذه الأيام اتهم رئيس الوزراء المغربي عبد الإله بنكيران منابر إعلامية مغربية بأنها خفّضت من شعبيته وأنها "باعت الماتش". أي أنها صارت عميلة مأجورة.

هاجم رئيس الوزراء المرآة حين لم يعجبه وجهه. ولم يذكُر لمن بِيع الماتش. لكن كان لذلك فائدة، إذ انتعش الإعلاميون حين تعرضوا للهجوم. توحدوا في الرد وذكّروا بترتيب المغرب المخجل في مجال حرية الصحافة، وأكدوا على بحث حزب العدالة والتنمية على الهيمنة والوصاية.

دفاعا عن رئيسه، قال وزير الاتصال الناطق باسم الحكومة إن ما قاله بنكيران هو حرية تعبير. وأضاف أن التقارير الدولية حول حرية الصحافة في المغرب غير مُنصفة. يُلقب هذا الوزير في مواقع التواصل الاجتماعي بـ"سعيد الصحاف" وزير الإعلام العراقي، ويضيف المعلقون أن التقارير تكون منصفة حين لا تنتقد المغرب.

حين كان الإسلاميون في المعارضة، كانوا يؤيدون التقارير التي تدين القمع، وبالمقابل كانوا يشْجبون التقارير الصحافية التي تكتسي طابع التشهير بحزبهم وينددون بالتوظيف السياسوي للحملات ضدهم. يتابعون نفس النهج وهم في الحكومة.

لم يتمكن الإسلاميون من بناء منبر إعلامي يدافع عنهم. لقد تعلموا الدعوة الدينية في المساجد. وكانوا يقومون بالتعبئة بين صلاتي العصر والعشاء. لكن الفضاء تغير. صارت المساجد تغلق في المغرب بين الصلوات. بينما المقاهي مفتوحة خمس عشرة ساعة يوميا على الأقل. عمليا يفتح المسجد ساعتين خلال أربع وعشرين ساعة. وهذا درس مغربي ستقلده مصر وتونس... لم يتمكن الإسلاميون من نقل نشاطهم السياسي الدّعوي والدّعائي للمقاهي. فقدوا المسجد ولم يكسبوا المقهى. والمقاهي أكثر من المساجد والمكتبات. وحين تلتقي المقاهي والجرائد تنشأ أغورا دائمة تفحص سلوك السياسيين طيلة الوقت. وحين لا يكون لديهم إنجاز سياسي حقيقي يصيرون موضوعا للسخرية. والسخرية تدمر الشعبية والشرعية السياسية.

مقالات من المغرب

المغرب... مَن أثقلَ جيوب العيد؟

يبدو المشهد مثاليّاً، ولا شيء ينغصّه. فالملابس جديدة، والوجوه هانئة، كأن الحياة بهية والجو بديع. بل تتلوّن الجلابيب أكثر كل سنة، وتبدو أغلى تكلفة وأرفع جودة. فهل صار المغاربة أغنى،...

للكاتب نفسه