لتعتمد ضحايا التحرش على أنفسهن

يَعدُ المخرج المغربي محمد عهد بنسودة بالكثير في عنوان فيلمه الطويل الثاني «خلف الأبواب المغلقة». وقد دأب المخرجون المغاربة على استخدام هذه العنونة الواعدة باستمرار، إذ يأملون أن يتم بفضلها جلب جمهور بصّاص يعشق إتيان المنازل من غير أبوابها. فقد تأكد للمخرجين أن الجنس هو العسل الذي يحبه المتفرجون.في الفيلم قصة رئيسية وقصة فرعية. في الأولى يُعَيَّّنُ مديرٌ جديد في شركة فيتحرش
2014-05-28

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
من الانترنت

يَعدُ المخرج المغربي محمد عهد بنسودة بالكثير في عنوان فيلمه الطويل الثاني «خلف الأبواب المغلقة». وقد دأب المخرجون المغاربة على استخدام هذه العنونة الواعدة باستمرار، إذ يأملون أن يتم بفضلها جلب جمهور بصّاص يعشق إتيان المنازل من غير أبوابها. فقد تأكد للمخرجين أن الجنس هو العسل الذي يحبه المتفرجون.

في الفيلم قصة رئيسية وقصة فرعية. في الأولى يُعَيَّّنُ مديرٌ جديد في شركة فيتحرش بأجمل موظفة لديه. تخبر سميرة زوجها فلا يجد حلا... عمل السيناريست على تمطيط هذا السطر ليصنع منه فيلما. تمطيط فقير، فالشركة تبقى تجريدية، لا نعرف حتى ماذا تبيع. لكن منتج ومخرج الفيلم يفهم في الاقتصاد والدعاية، إذ يتنقل الممثلون بسيارات من ماركة واحدة. طبعا يعكس نوع السيارة المستوى الاجتماعي لصاحبها. لكنه جرى أيضا التصوير في محل بيع تلك الماركة ويمر الممثل بين آخر الموديلات. في الفيلم دعاية أخرى، حين نسمع مذيع التلفزيون يتحدث عن تصوير المخرج لفيلمه الأول «موسم المشاوشة». وهناك طبعا الحرص على الحشمة، فقد جرب زوج سميرة التحرش بزميلته فميزت بين التعبير عن الإعجاب والتحرش. لعنت الزميلة الشيطان الرجيم وفي اليوم التالي جاءت للعمل بملابس محتشمة. حصل لها تغيّر فوري. يبدو أن لباس النساء هو سبب التحرش بهن، وليس هوس الرجال باستعراض فحولتهم.

تتعرض سميرة للابتزاز، يفضّل المدير التحرش بمتزوجة لأنها لن تطالبه بشيء، التحرش بالمتزوجة أقل كلفة، تخاف لأن لديها ما تخسره. لكن سميرة شجاعة. أخبرت زوجها وهو يثق بها، وليس بإمكان كل امرأة إخبار زوجها بأنها عرضة للتحرش. كل هذا لم يُثن المدير عن سعيه الكلبي، وهو يسأل سميرة بدهشة: «ماذا ستخسرين إن ضاجعتك مرة واحدة؟».

ليس لديه أدنى فكرة عن الكرامة. يغازلها فتصده، يصر لأن الرجال يعتبرون الصد دلالا واختبارا لهم، أكثر منه رفضا للعرض الجنسي السخي. فتستنجد بجمعية لمكافحة التحرش. هناك يسألونها هل لديك دليل مادي؟ لا. هل لديك شهود إثبات؟ لا. تشتكي سميرة رئيسها المباشر للمدير العام، يسألها: هل لمسك؟ لا.

إذن لا شيء جرى خلف الزجاج الشفاف الفاصل بين مكاتب الشركة. لا توجد أبواب مغلقة أصلا. هكذا تفقد الاستعارة في الفيلم جناحها الثاني: المستعار منه. لذا، فهذا تحرش شفوي حلال بالنسبة للمدير العام. تُنصح الموظفة بالتعقل، فهي المخطئة، أما المُتحرش فلا ذنب له. الشر كله راجع للنساء منذ الغواية الأولى لآدم إلى الآن. هكذا يفكر المدير والشركة لتحمي سمعتها أكثر من حماية سمعة الضحية.
في الفيلم لا توجد علاقة واضحة بين آمر ومأمور. لا يوحي أداء الممثل المُتحرش أنه يملك سلطة تستغل النفوذ للابتزاز الجنسي. تتحدث رئيسة جمعية إنصاف النساء ببطء مصطنع كأنها تشرح لأطفال أغبياء. ممثلو القصة الرئيسية وسيمون جدا، لكن أداءهم بارد. لمكافحة الضجر، جاء المخرج بممثلة بدينة تتحدث عن حميتها. ممثلة تحضر كشخصية ثانوية جدا في أفلام كثيرة بسبب وزنها الكبير وشكلها، ولا صلة لها بقصة هذا الفيلم أو غيره... المهم أن يضحك المتفرج من سمنتها.

في القصة الفرعية، والتي تجري في مستوى اجتماعي أدنى، نتتبع تحرش بواب العمارة بالغسالات، التحرش هنا عملي لا شفوي. منذ البداية، وقبل تشغيلها، يشترط البواب على الغسالة أن تغسل السلم وتغسله هو أيضا مرة في الأسبوع. أركان الاستعارة كاملة هنا. المثير أن القصة الفرعية أقوى من القصة الرئيسة لسببين: طرافة الإيحاءات الجنسية المضمرة وأداء الممثلين، بالعينين والحركات... فالبواب حاضر، يعبر بجسده، يؤمن بما يخرج من فمه، يغمز ويمشي منتصب القامة وعيناه تلعبان.

فارق آخر، تجري القصة الرئيسية في مكاتب زجاجية شفافة. تتسكع الكاميرا في مكان مكشوف لعشرات الموظفين. وهذا ما جعل التوتر والتشويق يقل. طوبوغرافية المكان في القصة الفرعية أفضل. فغرفة البواب متصلة بالسلم، والبواب لا بد خلف الباب يحرس المصعد. حين لا يرى قادما ينقض على الغسالة، وبعد غسلها له تتسلل في ذل.

لا عقاب للمتحرش في القانون الجنائي وفي قانون الشغل المغربي... وقد حاولت الجمعيات النسائية الاستفادة من اجواء الانتفاضات العربية لتمرير قانون تجريم التحرش. بعد نقاش عنيف دفن المشروع في نهاية 2013. كيف دفن؟

قرر رئيس الوزراء عبد الإله بنكيران تشكيل لجنة لدراسة المشروع. وعندما يريد مسؤول إنهاء نقاش حول مطلب صار أزمة، يشكل له لجنة. لذا اتهمت الجمعيات الحقوقية رئيس الوزراء بقبر المشروع لأسباب أيديولوجية. لكن من يطالع التعليقات يدرك أن المجتمع الرجالي ضده، فقد انتشرت على المواقع الالكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي تعليقات منها:

لو طبق قانون التحرش سنجد تسعين في المئة من الشباب في المحاكم. حاربوا الجرائم الكبرى أولا.
سنوا قانونا لتشغيل كل الشباب. سيشتغلون ويتزوجون وينتهي التحرش. في أوروبا هناك مساواة في الحقوق والواجبات، المغرب بلد محافظ فكيف تريدون ألا يعنف الرجل المغربي زوجته إن أخطأت وهو المسؤول الأكبر عن تكاليف الاسرة الباهظة؟ المهم ليس الإصلاح بل ضرب الإسلام بحجة حقوق المرأة. وأيضا: يجب سن قانون يجرم تحرش المرأة بالرجل أيضا. التبرج تحرش بالرجال.

مع هذه العقلية المهيمنة، تنتهي القصة الرئيسية والفرعية بالنهاية نفسها. الدولة لا تحمي النساء ضحايا التحرش، لذا يعتمدن على أنفسهن. تنصب الموظفة فخا لمديرها وتعتمد الغسالة على عضلاتها لكسر وجه البواب.

شاهدت الفيلم في سينما الفن السابع بالرباط، سجلت ملاحظاتي أثناء المشاهدة وخرجت لتحريرها في المقهى الملحق بالسينما، فوجدت مقابلة برشلونة وأتلتيكو مدريد. التشويق في المباراة أعلى من الفيلم.
ما السبب؟
يقول الجاحظ: «المعاني مطروحة في الطريق... وإنما الشأن في سهولة المخْرج، وكثرة الماء، وفي الطبع، وجودة السبك».

على صعيد المعنى، يتوهم الكثير من المخرجين أن تناول موضوع شائع في الصحافة أمر كاف للنجاح. وقد خرج الفيلم بعد أن سحبت الحكومة مشروع قانون لتجريم التحرش لأن الرجال ضد القانون. الواقع أكثر جرأة من الفيلم. أما النهاية فساذجة، إذ تذهب سميرة مع مديرها إلى فيلته ثم تهرب...
موضوع التحرش شائع جدا، والإتيان بالجديد فيه صعب. لذا لا بد من طاقة أسلوبية لمعالجة المواضيع. إن الطاقة هي التي تحول الحديد الخام إلى شُباك نافذة. وكذلك الأسلوب يحول المواضيع الشائعة إلى قصص رائعة. حين يغيب الأسلوب يقدم الموضوع خاما. وحينها يكون المتفرج أدرى من المخرج. ينطبق هذا على الأفلام وعلى المقالات السوسيولوجية. السر لا يوجد في المحتوى فقط.

مقالات من المغرب

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

للكاتب نفسه