نساء الحي الصناعي: ومع ذلك ما زلن يعملن

السابعة صباحا. تقف حافلات مكتظة قُرب أبواب معامل النسيج وينزل بعض الرجال، ومئات النساء يفطرن بكأس شاي ونصف خبزة فيها قطعة جبن أو مدهون بالعسل، عسل سكر لا عسل نحل. المهم هو الحلاوة. لا تفطر العاملة في بيتها كي لا تتأخر عن العمل، فكل تأخر قد يسبب حسما من الأجرة... لذلك تستأجر القادمات من البوادي منازل قريبة من الحي الصناعي لحذف محنة التنقل.تستيقظ المتزوجة أبكر من غيرها، تعد الفطور
2014-06-19

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
من الانترنت

السابعة صباحا. تقف حافلات مكتظة قُرب أبواب معامل النسيج وينزل بعض الرجال، ومئات النساء يفطرن بكأس شاي ونصف خبزة فيها قطعة جبن أو مدهون بالعسل، عسل سكر لا عسل نحل. المهم هو الحلاوة. لا تفطر العاملة في بيتها كي لا تتأخر عن العمل، فكل تأخر قد يسبب حسما من الأجرة... لذلك تستأجر القادمات من البوادي منازل قريبة من الحي الصناعي لحذف محنة التنقل.تستيقظ المتزوجة أبكر من غيرها، تعد الفطور والغداء معا.

 تترك المفتاح لدى أقرب بقال وتوصي ابنها. ستعود في السابعة مساء. على الطفل تدبر أمره بين السابعتين. تركض نحو مقر عملها، كرهت طريقها من فرط المرور فيه. لكنها تستمد طاقتها من أولادها. سيموتون جوعا إن لم تعمل. تتساءل في بداية سيناريو الذهاب والعودة: هل سيكون اليوم أفضل من البارحة؟سيكون أفضل.تفتح أبوب المعامل، جيش من النساء بوزرات بيضاء، يُشبّهن أنفسهن بالدجاج، يتزاحمن في باب المصنع. يذكرني ذلك بمطلع فيلم «الأزمنة الحديثة» لشارلي شابلن. بعد ارتداء الوزرة والتسلح بالمقص تشرع العاملة في محاربة الخيوط الزائدة وطي الملابس. عمل يدوي لا يتطلب معرفة وخبرة. وهذا ما تقدر عليه كل من لديها مستوى تعليمي ضعيف، وهن بلا مهارة. مع الزمن تتطور الآلات وتقوم بجل العمل بشكل أسرع وأقل كلفة. وهذا ما لا يترك للعاملات إلا أشغالا جانبية... تترقى الذكيات الصبورات من طي الملابس إلى خياطتها فيحصلن على أكثر من دولار للساعة.يتطلب الترقي تركيزا شديدا. ممنوع الكلام أثناء العمل، ممنوع الرد على الهاتف. من تكلمت تطرد.

 لذا فساعة الغداء فرصة للكلام وتفريغ مختلف المشاعر. للنميمة فوائد كثيرة، ولا بد لكل فرد من جرعة يومية. النميمة تطيل العمر، لذا تعيش النساء أكثر من الرجال... يحقق الرجال أرباحا كثيرة حين يشغّلون النساء. تفضل المصانع تشغيل النساء ممن اعمارهن بين ثماني عشرة وثلاثين سنة. هنا نجد العازبات والأرامل والمطلقات وزوجات العاطلين... ضمنهن الكثير من القادمات من البوادي... ينتشر وعي متزايد، بدا يصير علنيا، بأن قدرة تحمل النساء أكبر. وهن يُعلْن أسراً يتزايد عددها.في المعمل المكتظ، العمل فردي، كل عاملة مكلفة بمهمة محددة، وهذا يسهل على المسؤول مراقبتها. يا ويلها من أفسدت ثوبا أو عطّلت آلة. وهذه «الفردانية» تدمر روح التعاون بين العاملات.

 لا جدوى من شعار: «يا عاملات النسيج اتحدن» لأن كل عاملة تريد إنقاذ نفسها حتى لو أرسلت غيرها إلى الجحيم.تقبل العاملات أعمالا موقتة بلا عقود أو شهادة أجرة، بلا ضمان اجتماعي وتقاعد. تقول الحكومة أن مرونة قانون الشغل تشجع الشركات على الاستثمار.

 يربح المستثمرون لأن كثرة العاملات تخفض أجورهن. لقد تراجعت الصناعات النسيجية في المغرب بنسبة 5.8 في المئة بين 2012 و2013. فبحثا عن الأرخص، تنقل شركات الألبسة مصانعها إلى دول فيها يد عاملة رخيصة وقوانين شغل رخوة. في النهاية، فالأرخص هم البشر، خاصة حين يلتحقون بسوق العمل من دون تدريب مسبق. لذا يسهل على الشركات ابتزاز الأفراد والدول تحت تهديد «خففوا القوانين وأوقفوا الاحتجاجات وإلا نرحل».ولذا ظهر منافسون كبار مثل بنغلاديش حيث يمكن للشركات دفع أقل.

 وقد سمعت الخياطات عن مقتل أكثر من 800 عامل نسيج في بنغلاديش جلهم نساء. تتكرر أخبار حرائق مصانع النسيج في مصر. نادرا ما يناضل عمال النسيج لتحسين أوضاعهم لكي لا تهرب الشركات.أتجول في الحي الصناعي، أسجل الملاحظات وأجوبة بعض العاملات، اجلس في مطعم موقت قرب باب معمل النسيج، أحرر تحقيقي من عين المكان لتمتلئ حواسي وجملي بعرق البشر.

 تحل ساعة الغداء، ترجع العاملات المحظوظات لمنازلهن، تكره العازبات السير في الشمس خاصة عند الظهر، لذا يتغدين في ساحة المعمل، يجلبن طعاما (مرق بارد في آنية بلاستيكية) أو يشترين وجبات خفيفة من باعة متجولين. وجبات لا تشبع تماما لأن الأكل مكلف. الاقتصاد هو الحمية الوحيدة التي تقدر عليها العاملة للحفاظ على النقود.النقود وما أدراك ما النقود. ففي طريقها للعمل تتعرض العاملة للتحرش بالنقود، يقول لها راكب السيارة الذي يطاردها «اركبي وأعطيك ضعف أجرة شهر في ساعة». هذا عصر الفلوس. بعض الشابات يلبين نداء الحب في سيارة مكيفة.رفعت الحكومة المغربية الحد الأدنى للأجور في القطاع الخاص بنسبة عشرة في المئة في عيد الشغل، غضبت نقابة رجال الأعمال. قالت الحكومة إن الزيادة ستقسم على سنتين أي 5 في في المئة في العام 2014 والثانية في التي تليها. الحكومة قالت فقط. العمال لم يسمع لهم صوت.

 في المعامل يتعرض النقابيون للطرد لأنهم يحرضون على المطالبة بالحقوق، وهذا ما يسميه أرباب المعامل فوضى. على باب مقر نقابة في وسط الدار البيضاء شعار برنامج للدفاع عن الحرية النقابية. في المغرب لرجال الأعمال نقابة واحدة وللعمال نقابات كثيرة. لم تعد الحكومة طرفا في الحوار الاجتماعي. صارت تتصرف كوسيط تحت تأثير نفوذ رجال الأعمال وهيمنة السوق الدولية.في هذه الأجواء الصعبة صار التشغيل أشبه بمنّة. تقول العاملة لنفسها: «احمدي الله أنك وجدت عملا». في استراحة الغداء تفكر الأمهات في الأولاد الذين يتدبرون أمورهم بين السابعتين. لا بد أنهم يسخنون الغداء، تتبعهم بالهاتف المحمول... ذات يوم طلبوها في مدرسة ابنها، طلبت ساعة من مدير عملها وذهبت. وأخبرها مدير المدرسة أن هناك قملا في رأس ابنها. شعرت بالعار، بالذل.

 بعد الغداء تعود العاملة للعمل. وبعد ساعات عمل طويلة في الضجيج، تغادر منهكة جسديا وروحيا. تفرح حين تغادر المعمل وقد مر يومها بسلام، وفي الطريق تعود أحاديث الصحة وأسئلة المستقبل. ما أشبه اليوم بالبارحة، تتكرر فيه حكاية نساء لا يشبهن شهرزاد، تنقصهن المعرفة والحيلة والنقود... يتساءلن: إلى متى؟ إلى متى؟وبما أنه لا بديل لديهن، فالحي الصناعي هو الجنة.في الطريق تشعر العاملة بألم الظهر والرجلين، تورمت ركبتاها وانتفخت رجلاها من طول الوقوف أو الجلوس أمام الآلة. يتسبب الوقوف الطويل في بروز عروق الساقين، يعرف الرجل حياة المرأة من مسك بطن ساقها. المقهورات يكون بطن ساقهن مترهلا. هذه ملاحظة شخصية، للعاملات مشاغل لا تلتقطها عين البصاص الموظف، أي أنا. بالنسبة للعاملة، يقلقها أن تطرد أكثر من أي شيء آخر، تفكر في الأفواه الجائعة في البيت أكثر مما تفكر في عروق ساقيها. لا تحب هذه المهنة، لكن تحب النقود التي تحصل عليها منها نهاية كل شهر. عادة لا تقبض أجرتها في وقت معلوم. تأخذ أجرتها في ظرف كأنها صدقة لكي لا تحصل على ورقة تثبت عملها في الشركة. حين تقبض الأجرة تحرص على العودة ضمن جماعة خوفا من اللصوص في الحافلات أو في الأزقة الجانبية. تتشارك مع غيرها في دفع أجرة تاكسي صغير.

 تصل البيت، ما أسعدها حين تسدد فواتيرها، ترسل بعض النقود لأمها، تشتري لابنها ملابس جديدة فيرتديها ويقبلها... تصف مهنتها بأنها محاربة الخيوط الزائدة. وبما أنها حرب فهي تجدها مهمة نبيلة. لذا، وحتى لا يكون البصاص وصيا على وعي موضوعه، يسجِّل أنه بالنسبة للنساء القادمات من البوادي خاصة، يعتبر العمل في معامل النسيج حلما وترقيا اجتماعيا... الدليل؟ما زلن يعملن.
 

مقالات من المغرب

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

الحرّية للصحافيين والسّجن للصحافة

الصّحافيون الثلاثة الأشهر الذين أُفرج عنهم، أُدخلوا السّجن بتهم جنسية، لا بتهم متعلقة بحرّية الصّحافة أو الرأي، كما هو الواقع. وهي استراتيجية مباشِرة إلى درجة تثير السخرية، لكنها أيضاً لئيمة...

للكاتب نفسه