في نهاية حزيران / يونيو 2014، خرج فيديو من القصر الملكي لولي العهد المغربي، يصلي ويسلم على النبي ويرتل القرآن الكريم ثم يقدم مشهدا من مسرحية مع شقيقته أمام الملك محمد السادس. وفي بداية رمضان، شرع الملك في ترؤس الدروس الحسنَية وفيها يبدأ كلامه ويختمه بالصلاة على النبي. ليس لوزارة الداخلية المغربية أي مشكلة مع هذا، بينما وزارة الداخلية المصرية متورطة مع ملصق «هل صليت اليوم على النبي؟».
إستراتيجية «الديبلوماسية الدينية»
في الدروس الحسنية التي أنشأها الحسن الثاني منذ ستينيات القرن الماضي، يتم تدارس مشاكل الدين من قبل مختصين في الدين والدنيا. وبعد كل درس، يتقدم العلماء المدعوون من كل بقاع العالم، من أندونيسيا ونيجيريا والسودان... للسلام على أمير المؤمنين. لذلك صارت للمغرب جاذبية دينية، وهو البلد الذي كان يشاع عنه أنه لا يعرف الإسلام الصحيح. وتأكيدا لهذه الجاذبية، أعلن موقع وزارة الأوقاف عن توقيع اتفاق بعاصمة مالي في أيلول / سبتمبر 2013، سيتولى المغرب بموجبه تدريب 500 إمام مالي على مدى عامين. ولاحقا وصل الفوج الأول منهم إلى مطار محمد الخامس الدولي بالدار البيضاء على متن طائرة تابعة للخطوط الجوية الملكية.
وأكد بلاغ وزارة الأوقاف أنه «تقتضي التعليمات السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله أن توفَّر للأئمة الماليين الظروف المادية والمعنوية الملائمة لتكوين جدي مريح...». فبعد الطائرة، تم إيواؤهم في حي الرياض، أرقى حي في العاصمة المغربية الرباط. وقد أمر الملك ببناء مركز للتكوين في فاس - عاصمة الزاوية التيجانية - ليكون مقرا للتكوينات من هذا النوع. وهذا دليل على تبلور خطة طويلة الأمد . وفي أيار / ماي 2014 قال موقع الوزارة «تفضل أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس بالموافقة المولوية السامية على طلب المجلس الإسلامي النيجيري وهيئة الإفتاء بنيجيريا والمتعلق بتكوين أئمة من نيجيريا بالمملكة المغربية».
وبعد مالي وغينيا وليبيا ونيجيريا، جاء العرض المغربي لتونس بتكوين مئة إمام خلال زيارة الملك في مطلع حزيران / يونيو 2014، وأعلن موقع وزارة الأوقاف تكفل الملك بمصاريف تكوين 100 واعظ واطار ديني تونسي للدراسة طيلة سنة كاملة».
أكيد بعدها لن يرفض أي من هؤلاء إقامة صلاة الجنازة على أي جندي تونسي يقتله الإرهابيون كما يحصل الآن. هذا ما سماه وزير الأوقاف إستراتيجية الديبلوماسية الدينية. ومن ضمنها تكوين الأئمة في عدد من الدول الإفريقية والعربية.
هكذا يكافح المغرب التطرف في موقع ولادته. وهذا نهج وزارة الفِلاحة المغربية أيضا. فعندما يظهر الجراد بدول جنوب الصحراء، يرسل المغرب طائراته لرش المبيدات هناك. لا ينتظر وزير الفلاحة وصول الجراد للحقول المغربية. لهذه الديبلوماسية نتائج طيبة، كالإشادة بالمكانة الروحية المتميزة للعاهل المغربي الملك محمد السادس، سليل النبي. ومن النتائج غير الطيبة، كتبت جريدة الشروق الجزائرية «المخزن يكوّن الأئمة الماليين ضد الجزائر». ولتدعيم ذلك أوردت الجريدة قول المختص بالإسلامولوجيا المغربي إدريس الكنبوري: إن إستراتيجية وزارة الأوقاف «يراد من ورائها الرد على الدولة الجزائرية التي لا تكف عن مناكفة المغرب في الشأن الديني، سواء في أوروبا، وخاصة فرنسا حيث مسجد باريس، أم في إفريقيا حيث للبلدين معا مصالح متناقضة».
إن الحرب الإعلامية على أشدها بين المغرب والجزائر. وطبعا لن يكون عشق الجزائر وانفصاليي البوليساريو ضمن الدروس التي سيتلقاها الأئمة بالرباط... وعلى الرغم من الحرب وضعف التمويل، مقارنة بالجارة البترولية، فالنموذج الديني المغربي يتقدم. وقد ذكرت جريدة الشروق أونلاين الجزائرية أن وزير الداخلية الفرنسي رفض تعيين أئمة جزائريين في فرنسا. والسبب - حسب مانويل فالس الذي صار وزيرا أولا - هو كون الأئمة القادمين من الخارج يمثلون خطرا على البلاد. لكن يبدو أنه مرحّب بهم حين يأتون من المغرب. والدليل أنه من فرط الثقة ذهب الأمين العام لرابطة علماء المغرب ببذلة وربطة عنق إلى باريس لشرح النموذج الديني المغربي الذي يؤلف بين التقاليد والانفتاح.
ما هو النموذج المغربي؟
هنا بعض ملامحه، لأن جلها سيجعل المقال أطول وقراء اليوم مستعجلون للحصول على لب الموضوع.
أولا، مجَّد الملك الحسن الثاني الاعتدال المغربي في مواجهة التطرف والغلو، وافتخر بالاستثناء المغربي قائلا «نحن في المغرب نمتاز، ليس فحسب بكوننا قد ورثنا التقاليد الإسلامية عن المشرق، بل لكوننا أيضا ننهل من معين التراث الأندلسي المتميز الذي يتسم بانفتاح كبير»، وأكد أن المغرب صلة وصل بين الحضارات، وأضاف أن المذهب المالكي جزء من الهوية المغربية. وأكد أن ليس من مهام الدولة أن تعدم المرتد لأن ذلك من «شأن المرء مع نفسه» وأن الحجاب ليس ضرورة من ضرورات الحياء، بل ورفض أن يُتخذ الحجاب ذريعة لانعدام التسامح وذكّر بقول أحد المتصوفة «الحجاب مبعث كبر وتعال» (من كتاب «عبقرية الاعتدال» حوار مع الصحفي الفرنسي إريك لوران).
الملمح الثاني حصل في 13 حزيران / يونيو 2014 في الرباط حين ترأس الملك محمد السادس مراسيم حفل تقديم «خطة الدعم» للتأطير الديني على الصعيد المحلي. وسيضم هذا التأطير تكوين 1300 إمام مرشد حاصلين على شهادة الإجازة ويحفظون القرآن كاملا وتلقوا تكوينا شرعيا تكميليا. وسيوزعون على أقاليم المملكة السبعين ووظيفتهم هي مساعدة الأئمة وتحصين المساجد من أي استغلال وحماية ثوابت الأمة.
الملمح الثالث: قال وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية إن الأمور ـ يقصد التعاطي مع موضوع المثليين الجنسيين ـ تدبر أساسا بالحكمة والموعظة الحسنة... وقد حكمت محكمة في المغرب بروح رياضية على مثليين بعشرة أشهر حبسا. فالجنس حرية أيضا.
الملمح الرابع أن خصوم إمارة المؤمنين صاروا يفكرون لها. إنه إنجاز كبير أن يفكر السلفي والصوفي واليساري للمؤسسة الدينية الرسمية لأنها ملاذهم من الاقتتال.
أما عن سؤال: هل ستنجح المؤسسة الدينية الرسمية؟ فيقول عبد الوهّاب رفيقي القيادي السلفي المغربي الذي قضى عشر سنوات في السجن، والمشهور بأبي حفص، وخرج بعفو ملكي «إن الخطاب الديني التقليدي يشكّل هوة بين العلماء والشعوب». وقد سجل أن النشطاء الدينيون «يسيطرون على الساحة بينما انعزل العلماء». من جهته، تمنى محمد الفيزازي أن يؤم الملك، فتوجه الملك إلى مسجده في طنجة وصلى واستمع لخطبة القيادي السلفي الذي قضى عشر سنوات في السجن. لقد تصالحت إمارة المؤمنين مع السلفية.
من جهته انتقد قيادي منشق عن جماعة «العدل والإحسان» العلماء ودعاهم لعدم التقاعس في مهامهم. يطالبهم بالقيام بدورهم، أي لم يعد يرى في جماعته الضخمة المتجمدة بديلا عمن سماهم عبد السلام ياسين «فقهاء السلطان».
الملمح الخامس هو شخص وزير الأوقاف المغربي، وهو مثقف كبير (وأنا معجب به جدا). فأحمد التوفيق وزير متصوف وليس إخوانيا مثل سابقه. وهو مؤرخ وروائي، يجمع بين معرفة الماضي والتخييل واستقراء الوقائع، يقدم تنظيرا من مستوى عال حول مهامه. ووزارته ذراع سياسي للمغرب. موقع الوزارة (www.habous.gov.ma) بمثابة وكالة أنباء دينية نشطة جدا مقارنة بمواقع باقي الوزارات. وقد قدم الوزير في بداية رمضان الدرس الأول من الدروس الحسنية أمام الملك وعنوان الدرس هو «حماية الملة والدين وآلياتها في المملكة المغربية»، أي حماية الدين والنفس والعقل والمال والعرض. كل شيء إذن في حمى أمير المؤمنين.
كيف؟
أجاب وزير الأوقاف: أول الآليات هو الدفاع عن الأرض، وشرح: «حيث إن الأرض أول مقوّمات حياة الدين، والدفاع عنها بالجيش أعظم الجهاد، وآلية حفظ الدين بحفظ النفس، إذ يعتبر حفظ حياة الإنسان من القتل والعدوان، أبرز الشروط وأقدسها من منظور حماية الدين، وآلية حفظ الدين بحفظ العقل، حيث أنه إذا كانت الحرية ضرورية لمنطق الدين، فإن العقل ضروري لقيام الحرية».
الملك وجيشه هم المجاهدون. وبالتالي منع خصومه من امتلاك الصفة. ثاني الآليات هي حفظ الدين بالتعليم، ثالثها حفظ الدين بالشورى، رابعها حماية الدين بتنظيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فليس بإمكان أي كان القيام بهذا الأمر. وأخيرا حماية الدين بآلية حسن التساكن مع العالم. فالمغرب يتجنب الدخول في نزاعات. فحتى حين أفتى يوسف القرضاوي بجواز القروض الربوية للمغاربة لشراء المنازل لانعدام القروض الإسلامية تجاهل علماء المغرب الفتوى.
واستنتج الوزير المحاضر أن حماية الملك للدين، تترتب عليه عدم مشروعية أي برنامج ديني منافس خارج الثوابت، وعدم مشروعية أي برنامج سياسي يقحم الدين في بعدي التبليغ والتأطير الدعوي والخدماتي. فوحدها إمارة المؤمنين حجة في هذا الشأن.
هكذا ختم الوزير درسه الديني السياسي أمام الملك وأمام نخبة من علماء الأمة، وخاصة القادمين من جنوب الصحراء.
إلى أين سيؤدي كل هذا؟
سيعزز الامتداد الديني الصوفي الامتداد الجغرافي للمغرب في صحرائه. مرحبا بكل ما يعزز الوحدة الترابية للمغرب. لا يرجع نجاح النموذج المغربي لمهارات تدبيرية فقط، بل لسياق تاريخي أيضا. فهناك تجانس ديني صنعته دولة مركزية عبر التاريخ، وهناك وعي شديد ومبكر بأهمية دور الدين، لذا لم يترك الملوك والوزراء المجال للفقهاء ليفعلوا ما يحلوا لهم.
موقفي كيساري منفصل عن منطلقاتي الفكرية. فانا سعيد وأبارك هذا. حتى الإخواني المغربي الذي يعتبر التصوف بدعة وضلالة ويحلم بهدم أضرحة الأولياء يبارك. اللهم بارك.
ما اسم هذا؟ نفسيا وفكريا اسمه فصام أو سكيزوفرينيا. وسياسيا اسمه عبادة الدولة القومية في كل ما تفعله لحماية مصالحها.