قضيت هذا الصيف في إنجاز إجراءات شراء شقة دفعت فيها ما تيسر وما لم يتيسر. في الليل أتسكع في الفايسبوك وفي النهار أتسكع بين الإدارات. على الشبكة الصبيب ضعيف وفي الإدارة الموظف ثقيل.
أعددت ملفا للبنك ليدفع ما لم يتيسر للمرة الثانية. والملف فيه وثائق في بطنها وثائق. مثلا، لكي يعطيك البنك قرض سكن يجب أن تحضر له شهادة ملكية العقار الذي ستشتريه وشهادة بعدم ملكيتك للسكن ليسلفك. لتحضر شهادة الملكية تقصد مقر المحافظة العقارية. ولتحضر شهادة عدم ملكية شقة تقصد دار الضريبة. وهنا يطلبون منك شهادة السكن. ولتحصل على شهادة السكن لا بد من توقيع «المقدم»، ولكي يوقع المقدم ـ الشاويش أصغر وأهم موظف في وزارة الداخلية ـ يجب أن تقدم له شهادة العمل وطلبا ووصل إيجار وفاتورة الكهرباء، والتزاماً بأن زوجتك تسكن معك. ولتحصل على شهادة العمل تقدم طلبا لمديرك...
كم من شهادة ذكرتُ الآن؟ لا أعرف، لقد سلمت رقبتي للبيروقراطية مؤقتاً. لكني مع كل وثيقة جديدة أحث نفسي: إلى الأمام. لا تراجع. خاصة أن الشقة واسعة تقع في آخر طابق وتطل على البحر.
اتبعوني في دروب الإدارة.
بعد تسلم الوعد بالبيع من الموثّق ذهبتُ إلى مكتب المحافظة العقارية للحصول على وثيقة أصلية للملكية ليعتمدها البنك في القرض. في المكتب قيل لي إن شباك دفع الرسوم أغلق وإني وصلت متأخرا. سألت رجل الأمن الخاص: كيف يغلق في الواحدة والإدارة ككل لا تغلق أبوابها إلا في الثالثة بعد الظهر في رمضان؟
لا يملك جواباً. فهو ليس موظفاً. إنه يعمل في شركة خاصة تعاقدت مع الإدارة العمومية مؤقتا. في المغرب عشرات آلاف رجال الأمن الخاص ووضعهم في غاية الهشاشة رغم أناقتهم.
في الغد رجعت في التاسعة. وصلت مبكرا. جلست بين المنتظرين. لكي أمحق الانتظار آخذ معي حاسوبي وأسجل ملاحظاتي هذه بعين المكان. سبق لكم أن انتظرتم حتى عرقتم وانتصب شعر رأسكم... دخل مواطنون كثيرون وخرجوا. أتأمل وجوه ناس تركوا أعمالهم وجاؤوا لقضاء مصلحة في جحيم المحافظة العقارية. العقار غابة. العقار هو بترول المغرب.
سألت رجل الأمن الخاص عن موعد قدوم المسؤول عن التوقيع فقال قريبا. بعد نصف ساعة سألته فقال قريبا. شرعت أغني أغنية شعبية شهيرة عن الانتظار «دابا يجي الحبيبية دابا يجي» (أي سيجيء قريبا يا حبيبتي. عن أم تسخر من انتظار ابنتها لرجل لن يجيء). يفحصني الشرطي الخصوصي ليتبين الفاصل بين السخرية والحمَق في سلوكي. بعد حين غادر موظف موقعه وتأخر. سألت عنه فجاء الجواب: ذهب إلى المرحاض.
من يستطيع الاعتراض على الغريزة؟
بعد كل فترة انتظار أردد الأغنية، ثم شرعت أكتب. الكتابة أشبه بفعل انتقامي. أدرك البوليسي الخصوصي أني غاضب وأتحامق. أنتظِر ولا أغلي لأن الكتابة تنفيس عن الغضب. أستمتع بالكتابة ويستمتع الموظف قبالتي بتعذيب الناس بطلب المزيد من الوثائق. أغرب وثيقة هي شهادة الحياة. شهادة تثبت أن الواقف طالب الوثيقة حي.
في العاشرة فتح شباك صندوق استخلاص الرسوم. الصندوق آخر شباك يفتح وأول شباك يُغلق. دفعتُ الرسوم وطُلب مني العودة في الغد لسحب الوثيقة التي تُعد إلكترونيا. فكرت في الصراخ لكنّ للموظف الذي يوقِّع ناباً ومخلباً. وهو قادر على معاقبة من ينتقده. قد يرفض مثلا نسخة البطاقة الشخصية لأنها غير واضحة فيدوّخني. ثم إن الموظف يكلف البوليس الخصوصي ليبسط المطلوب للمواطن، أي أنا. حينها لا يظهر إن كان البوليس الخصوصي حارساً أم موظفاً أم وسيطاً. الجواب: ثلاثة في واحد. وهو يبدو لبقا وأذكى من الموظفين، سألته بوجع: ولماذا لا آخذ الوثيقة الآن؟
جاء الجواب ساحقاً «ّذهب الموظف الذي يوقع إلى مقر الولاية». لماذا ساحق؟ لأن الموظف لا يستطيع مخالفة الوالي. للوالي والغريزة النفوذ نفسه على البشر هنا.
ذهبت ثلاث مرات للحصول على وثيقة واحدة. فحضور الموظفين ليس تاما. يسهل تفسير التغيب في رمضان. الصيام عبادة أما العمل فلا. فالعواشر (العشر الأواخر) مقدسة وهي للاعتكاف لا للعمل. وهكذا فإن العامل الديني جد مؤثر في الإدارة سلبا، مؤثر لأنه يبرر التغيب وليس يزيد الإنتاجية بحجة أن العمل عبادة. الغريب أن «العواشر» تمتد أربعين يوما على الأقل لدى المغاربة. وهي مبرر لكل أشكال التقاعس.
في صف الانتظار تتجلى علاقة المواطن بالدولة. الإدارة هي صلة الوصل بين هذا الفيل الذي لا يظهر من فرط ضخامة حجمه، والمواطن الحشرة. الدولة تقبض على مصالحه، وعليه إحضار الوثائق والانتظار ودفع رسوم، وحتى رشوة للحصول على حقه أو حق غيره إن أمكنه. سبب الخلاف؟ الإدارة تدقق والمواطن يريد كل شيء فورا. وحين لا يحصل عليه يجلس الفرد ينتظر دوره ويبحث عن مسلك.
يبحث وينتظر ويغلي. وحتى عندما يكون هناك ترقيم إلكتروني للمُنتظرين، يتناسى بعض الموظفين في دار الضريبة الضغط على زر الترقيم فيبقى الترتيب غامضا. ويمكن لكل من يفتقد الحياء أن يسبق غيره. لا تعنيه انطباعات الآخرين عنه. في هذه الظروف تكون الوقاحة كنزاً لا يفنى. يرتكب الوقح الخطأ ويرفض تلقي توبيخ، يزعم أنه يستفسر أو يطلب معلومات بينما هو يحصل على الوثائق التي تخصه. وغالبا يملك فائض وقاحة فيعطي باقي المنتظرين محاضرة عن غياب الإنسانية والتسامح وقسوة قلوب البشر. في غمرة الجدل يصعب على المنتظر البرهنة على الضرر الذي لحقه. وهو يعبر عن استعداده لدفع رشوة لشراء الزمن، لتسريع الحصول على الوثائق.
بعد الانتظار والتسويف وطلب وثائق، يصل المواطن ليقف أمام الشباك. ويجب ألا تصدر عنه أي علامة نرفزة أو ضيق. بل عليه أن يظهر الانصياع الكلْبي لكي تُقضى حاجته. من يحتج يجد أن وثيقة ما تنقصه أو أنها منتهية الصلاحية... الأغلبية تؤمن بأنه لا جدوى من الاحتجاج أصلا. فالاحتجاج مجرد عناد والعناد لا غد له. لذا فإن ما يهم المواطن - الذي يعتبر مروره بالإدارة شرا لا بد منه - هو قضاء حاجته من الوثائق بسرعة. يريد الانتهاء لا العدالة. يهمه ألا يقع الفيل على الحشرة. بفضل سلوك الأغلبية التي تشبه النعاج، يسود السلام المفيد لبقاء الفيل، فيلنا. فبدون الفيل يكون وضع الحشرة أسوأ. لم أكتب هذا إلا بعدما مارست سلوك النعجة ونجوت. هذا الفيل أفضل للحشرة من كل ذئب آخر.
مواضيع
المواطن والإدارة: الحشرة والفيل
مقالات من المغرب
الحرّية للصحافيين والسّجن للصحافة
الصّحافيون الثلاثة الأشهر الذين أُفرج عنهم، أُدخلوا السّجن بتهم جنسية، لا بتهم متعلقة بحرّية الصّحافة أو الرأي، كما هو الواقع. وهي استراتيجية مباشِرة إلى درجة تثير السخرية، لكنها أيضاً لئيمة...
الجفاف والبطيخ والأفوكادو وعصابة لصوص الماء في المغرب
ثلثي المنطقة العربية على رأس الدّول الأكثر عرضة للإجهاد المائي في العالم. فمن هم لصوص الماء في المغرب؟ ومن المذنب؟ ومن الضّحية في زمن العطش؟ يؤدي نقص المياه إلى تراجع...
مصير النفايات الأوروبية في المغرب: رَدْمٌ أم إعادةُ تدوير؟
تخفي صفقة استيراد النفايات الأوروبية المثيرة للجدل معضلة خطيرة، تكمن في أن إمكانية إعادة تدوير النفايات في المغرب ضئيلة جداً، إذ لا تتجاوز 10 في المئة من النفايات المحلية، أما...
للكاتب نفسه
تهريب بالمؤنث بين المنبع والمصبات التجارية
تفحّص لمثال "البغلات"، وهن النساء المهرِّبات من معبر "سبتة" المدينة المغربية المحتلة من إسبانيا الى كل الاسواق الشعبية في المغرب..
الخطاطة السردية لتغيير قيادة "حزب العدالة والتنمية" في المغرب
القصر يستعيد صدارته ونفوذ محمد السادس بلغ أوجه. هناك موجة ارتداد سياسي واجتماعي، والأولوية للتمسك بالوضع القائم في المغرب، لأنه أفضل مما يجري في الجوار..
المنظومة المعرفية المهيمنة: الحافظ يهزم الفاهم
المدارس المغربية مصبوغة جيداً ومجهزة. لكن، ينقصها شيء ما.. النظام التعليمي مبني على الحفظ والاستظهار وهو لا يتيح الانتقال من التلمذة إلى البحث، من اجترار اليقين إلى الإنتاج..