الغريزة تسيطر: المعدة تهزم الكبد

يملك بطل هذا المقال سمات جوهرية يمكنك أن تجدها في أسرتك ومحيطك بسهولة، فهو يستيقظ في منتصف النهار أو بعده. مزاجه عكر. سنّه بين ستة عشر وأربعين سنة. لم ينه دراسته، غالبا غادر المستوى الإعدادي أو الثانوي، وهو نصف متعلم نصف أمي، ومع ذلك هو واثق أنه يفهم أفضل من الجميع. يقضي نصف ساعة يغسل، ويطلب فوطة وملابس نظيفة. تخدمه امه لأنه فلذة كبدها. يلبس وهو يوبّخها لأن ملابسه لم تصبن جيدا. يشغل موسيقى
2014-08-27

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك

يملك بطل هذا المقال سمات جوهرية يمكنك أن تجدها في أسرتك ومحيطك بسهولة، فهو يستيقظ في منتصف النهار أو بعده. مزاجه عكر. سنّه بين ستة عشر وأربعين سنة. لم ينه دراسته، غالبا غادر المستوى الإعدادي أو الثانوي، وهو نصف متعلم نصف أمي، ومع ذلك هو واثق أنه يفهم أفضل من الجميع. يقضي نصف ساعة يغسل، ويطلب فوطة وملابس نظيفة. تخدمه امه لأنه فلذة كبدها. يلبس وهو يوبّخها لأن ملابسه لم تصبن جيدا. يشغل موسيقى راي أو راب بصوت مرتفع. يدخن قبل أن يفطر. يجلس مستلقيا ويطلب الفطور. ويريد أن يفطر بما لذّ وطاب وأمه تحاول تهدئته. يفطر بما لا يعجبه. وقد يرسل شقيقته الصغيرة أو أمه لتشتري فطوره الخاص... لترضى معدته.
يأكل ويلعن لا عدالة في العالم. لديه خطاب متماسك حول نفسه. فهو مدرك لميزته، إنه ذكر لا بنت. يستهلك ولا يكسب، وراض على نفسه بشكل مرضي. ولا واحد في العالم أوسم منه.
ينكشف بؤسه من زعمه أنه دائما مظلوم مستهدف من المجتمع محسود من الأقارب وخاصة إخوته، وتكاد أمه تصدق هذه المسكنة لأن كبدها هش. والكبد هو موطن الحب لدى المغاربة. وهي تخاطب ابنها «كبيدتي» أي كبدي مصغرا.
ومع الحسد، يظن البطل السلبي أنه غير محظوظ. الدليل؟ تجد له أمه عملا يقضي فيه يومين ثم يغادره لأن ذلك العمل الحقير لا يناسب مواهبه العظيمة أو لأن رب العمل ليس أنيقا مثله... والتجارة التي بدأها لم يتمها. بدد رأسمال مشروع صغير أقامته له الأم. اشترى نظارات شمسية من ماركة عالمية والويل لمن أبدى ملاحظة. فبطل هذا الزمان لا يقبل النصيحة. لديه حساسية رهيبة تجاه الأسئلة حتى لو كانت بسيطة، مثل «أين كنت؟». يثور ويشتم.
يمشط شعره ويطلب نقودا ليذهب للمقهى. وعلى النقود أن تكون جاهزة. كيف تتوفر الأم على النقود وقد ذكر إحصاء حكومي أن 85 في المئة من الأسر المغربية عاجزة عن الادخار. تندلع معركة بين الأم وبطلها. يحصل على ما يريد. يغادر ويقضي النهار متكئا على جدران الأزقة. في المساء يعود للبيت للاعتناء بمعدته. يأكل وجبات مجانية، فهو غالبا أصغر إخوته وتطعمه أمه جيدا، وهو أذكى من الجميع وكل ما تفعله العائلة بالنسبة له تخاريف. ينام في البيت ولا يكلم ساكنيه. في العاشرة ليلا يحتاج نقودا أكثر. لديه أصدقاء يخرجون ليلا فقط، وقد تستلف الأم من الجيران من اجل فلذة كبدها... يعود بعد منتصف الليل أو في الفجر وقد ملأ معدته خمرا، فينام نوما عميقا.
هذه سيرة البطل وهذا برنامجه اليومي.
لقد رُبي البطل الذكر المدلل على أن يفعل ما يريد، وهذه هي الحرية بالنسبة له. وحين كبر لم يتمكن والداه من تعليمه فعل ما يجب. لذا لم ينتقل من حرية الفوضى إلى حرية الضرورة. الالتزام بالضرورة والقانون إراديا سلوك غريب عن وعيه. وقد فهمت كل العائلة، إلا الأم، أن البطل هو حالة فشل رهيب ميؤوس منه. حتى أنها استنتجت أن بطلها لو تزوج لتعقّل. بينما القاعدة أن التّعقل سابق على الزواج. المهم أن الأم ذهبت تخطب له شابة جميلة. فسألها والد العروس:
ماذا يفعل ابنك؟
لديه شقيق يعمل في فرنسا.
هكذا أجابت الأم بنية صادقة. فالحب أعمى.
وبالنظر لحجم البطالة، فإن في كل عائلة شخص لا يعمل ويطالب الآخرين (وخاصة أمه) بالنقود والأكل ويملي شروطه، ويسمى «شمكار» العائلة، وفي بعض الأسر الميسورة توجد بنت «شمكارة» في السادسة والعشرين، تعطف عليها أمها وتنتظر أن يرزقها الله ابن الحلال. المشكل أن أبناء الحلال يتزوجون بنات في سن الثامنة عشر. والباقي أولاد حرام يكذبون على ابنتها لمدة أسبوعين ثم يختفون...
هكذا تمضي أيام شمكار العائلة طالما الأم تملك موارد، وينجح الأمر حين يكون الأب قد مات أو ترك البيت. أما حين تنفد موارد الأم تفرغ معدة البطل ويبدأ التهديد والعنف اللفظي والبدني. وفي حالات كثيرة وصل الخبر للصحف:
في نيسان/أبريل 2014، اعتقلت عناصر الشرطة بمنطقة عين السبع بالدار البيضاء شابا يبلغ من العمر 22 سنة قتل أمه. قدمت شكاية ضد المتهم بتهمة الضرب والجرح في حق أحد أقاربه، غير أن تدخل والدته انتهى بالتراجع عن الشكاية وسحبها، فأفرجت عنه الشرطة، ثم قتل أمه.
ضرب شاب والده. في المحكمة طلب القاضي من الأب أن يصدر حكما. فعل، فغضبت الأم. الأم تضحي، ففي حالة عنف في أيار/مايو 2014، حكت الصحف أن أما اقترضت مبلغا لاستكمال بناء فرن ليشغله بطلها لكنها عجزت عن تأدية الديون... فصار البطل السلبي يطالب والده بالدفع. رفض الأب الدفع فسدد له البطل ثماني طعنات قاتلة ثم انتحر شنقا.
وفي آب الجاري نشر خبر اعتداء شخص في عقده الثالث على والديه وشقيقته، متسببا لهم بجروح بالغة، ونزيف داخلي... بعد أيام عثر عليه منتحرا.
الانتحار هو الحل. الانتحار هو ثمن غسل العار.
يوميا تنشر الجرائد المغربية أخبار عنف أو قتل ضد الأصول. عند البحث في غوغل عن «شاب يقتل والده في المغرب» و«شاب يقتل والدته في المغرب» فإن نتائج قتل الأب أكثر. هذا يناسب فرضيات سيغموند فرويد. من معاينة حالات العنف ضد الأصول لدى الجيران وفي العائلة أفترض أن ما يصل للجرائد هو واحد في المئة مما يجري. لنجرب الانفصال عن الموضوع ونتأمله ببرودة: حسابيا، إذا قتل عشرة آباء من عشرة ملايين فهذا قليل جدا. حسابيا هامشي، لكنه فضيحة أخلاقية.
بعد الرصد والوصف ننتقل للتفسير: سوسيولوجياً يعاني البطل من هوس الشراء والأناقة، وهو أنيق جدا ووالده وأمه تكاد تتسول. يسكر بالليل وينام بالنهار، يستخدم المخدرات ثم حبوب الهلوسة، وهي أرخص. وقد يصنع خمره بنفسه وفيه نسبة 90 في المئة كحول.
في هذا الصيف، زرت جدتي عدة مرات ووقفت على حالات كثيرة. تحدثنا طويلا ولاحظتُ أن الموضوع الرئيسي الذي تكرر هو علاقة الآباء بأولادهم. لقد ساءت هذه العلاقة بشكل غير مسبوق. الوقائع بلا حصر: عنف يومي مضمر، نفسي، توبيخ، تهديد...
الحل؟ يقدم الوالدان ما لديهم لتجنب التعرض للعنف «يشترون عمرهم»، قالت جدتي. لا يقل العنف داخل الأسرة عن العنف في الشارع. العنف الأسري أكثر كثافة وديمومة بل أعتبر عنف الشارع نتيجة للعنف المنزلي.
ختمت جدتي: لم يعد الكبد يعمل.
وما الذي يعمل؟ المعدة وحدها تعمل. وترمز المعدة للجشع. إنها الغريزة تسيطر. وقد عبّرت الثقافة الشعبية عن هذا. يوجد وعي شقي يعتبر الأبناء مصدر متاعب، ما كان زينة الحياة الدنيا صار بشاعتها ومرارتها. يردد السابقون جملا فيها الكثير من الإيقاع بسبب كثرة استخدامها، مثلا «لولا الغيرة لما ولدت الفأرة»... حتى الحمارة البليدة فهمت وقالت: «منذ أن ولدت جحشي لم أشرب مائي صافيا ولم آكل علفي كافيا». وقد عرفت في عائلتي عجوز أذلّه ابنه الأصغر. ضربه في بيته، كان الرجل يعزّي نفسه ويردد «كل دار فيها حمار». وحين تعب العجوز وصارت حياته مهددة، رحل للعيش في فرنسا عند ابنه الأكبر ليبتعد من ابنه الحمار... ليس بإمكان كل الآباء الفرار. إلى أين؟
ينجب الناس الأطفال كي لا يموتوا وحيدين. لكن النتائج لا تطابق التوقعات. أنت كيف ستكون شيخوختك مع أولادك؟ كم من مرة تعاملت بقسوة مع والديك؟ قارئي العزيز، احسبْ قبل أن تُجيب.

مقالات من المغرب

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

للكاتب نفسه