الموقف واضح: التنديد بقطع الطريق بين مراكش وأغادير، وهذا إهانة للشعب. أثار قرار شركة الطرق إغلاق الطريق السيار لتصوير فيلم دولي جدلا قانونيا، باعتباره الطريق لا الفيلم - مرفقا عموميا.
هذا هو الخبر الوحيد الذي ليس فيه قتل وذبح وجريمة على بعض الجرائد والمواقع الإلكترونية. والمناسبة هي أن منتجا أميركيا استأجر مقطعا من حوالي ثلاثين كلم من بدّال الطريق السيار حول مراكش لتصوير فيلم «مهمة مستحيلة 5» من بطولة توم كروز. وهو ما سيفرض على المسافرين عبور مدينة مراكش للمرور نحو جنوب المغرب أو شماله لمدة 14 يوما بدءا من اوائل ايلول/سبتمبر 2014.
تفاعلت مواقع التواصل الاجتماعي مع هذا الحدث الكارثة باستنكار شديد. وهناك من قال إن المركز السينمائي المغربي هو الذي أجر الطريق السيار «للماريكان». ومن سخرية التاريخ أن يتزامن التصوير مع تأجير المغرب بحره للأوروبيين للصيد مقابل 40 مليون يورو لمدة عام. لا تنديد بهذا. للإشارة، البحر أيضا مرفق عمومي مساحته عشرات الآلاف من الكيلومترات المربعة وفيه سمك. 30 كلم من الطريق السيار لا سمك فيها.
لماذا التباكي على قطع طريق مؤقتا وليس البحر عامة؟
لأن الأمر يتعلق بالفن، بالسينما. بموقف منها باعتبارها فسقا وسببا لتبذير ميزانية الدولة على المهرجانات. وقد صار هذا الموقف الجاهز بمثابة بداهة. لذا سنقدم بعض المعطيات والوقائع التي يمكن أن توضح الأمر للحانوتي والفنان ورجل العلاقات العامة.
لنحسب مع الحانوتي:
تبلغ الميزانية السنوية لتسيير المركز السينمائي المغربي سبعة ملايين دولار. وعلاوة عليها، تكلّفه الدولة بتدبير موارد تخص أولاً دعم المهرجانات السينمائية بمبلغ قدره ثلاثة ملايين ونصف مليون دولار. ثانيا بتوزيع منح تجديد القاعات السينمائية بمبلغ قدره 700 ألف دولار. ثالثا بتوزيع دعم مسبق ولاحق لإنتاج الأفلام المغربية بمبلغ ستة ملايين دولار. المجموع هو سبعة عشر مليوناً ونصف مليون دولار سنويا.
بالمقابل، بلغت استثمارات تصوير الأفلام الأجنبية في المغرب في سنة 2014 رقما قياسيا هو 120 مليون دولار، وهذا إلى حدود آب/أغسطس الفائت. ويُتوقع أن يصل الرقم الى 140 مليون دولار في نهاية السنة لأن «لجنة الفيلم في وارزازات» تسوِّق المغرب وتعرض على منتجي هوليوود وبوليوود تسهيلات للتصوير. حسابيا، هذه الاستثمارات تغطي تكاليف تسيير المركز طيلة السبع عشرة سنة المقبلة. وتغطي كل ما ينفق على السينما من مهرجانات وقاعات وإنتاج في المغرب لسبع سنوات مقبلة.
للإشارة، ففي العشر سنوات الماضية، غطت الاستثمارات الأجنبية تسيير المركز ودعم الأفلام وتمويل المهرجانات وتجديد القاعات و«بقي الخير» كما يقول المغاربة. وأضعف استثمار أجنبي كان 24 مليون دولار في 2004، وهو طبعا يزيد عن سبعة عشر مليون دولار التي يتطلبها تمويل كل الأنشطة السينمائية بالبلد.
أتمنى أن تكون النتيجة واضحة للحانوتي. فالسينما ليست تبذيراً بل هي قطاع مربح للدولة وللمدن التي تحتضن التصوير والمهرجانات والقاعات. للإشارة، بلغت مداخيل القاعات السينمائية المغربية سبعة ملايين دولار في 2011 وتسعة ملايين ونصف مليون دولار في 2013، بزيادة 35 في المئة. ثلث الحجوزات في فنادق وارزازات مرتبط بإنتاج الأفلام. السينما أكثر ربحية من كراء البحر للصياديين الأوروبيين. السينما هي قطاع مربح جدا في أميركا. لكن الـ«دوكسا» تحوّلها لمشكلة في المغرب. الخطاب الشفوي حول السينما أقوى من المكتوب. الأفواه أضعاف الأقلام.
حسابيا، ليس على الحانوتيين أن يقلقوا على ميزانية الدولة بسبب السينما. ومن بين الحانوتيين من لديهم حجج أخلاقية ضد فن السينما الذي يصور أجساد الممثلين. لكن هذا النوع من الحانوتيين المنقبين لا يصرحون بما يرهبهم، ويهاجمون السينما بدعوى التبذير. وقد قدم الناقد السينمائي بلال مرميد على إذاعة «ميدي 1» ردا ملؤه التحدي على الذين يهاجمون السينما في كل مناسبة بسبب غرقهم في الجهل والظلامية، ويزعمون حرصهم على المرفق العمومي بينما هم غير حريصين حتى على حياة البشر الذين يذبحون في سبيل الله.
إذا كان الحانوتي إخوانياً يحصل إشكال صغير، يذكرنا بـ«إنه الاقتصاد يا ذكي».
حسمنا في أوهام التبذير. السينما قطاع مربح. الفن قطاع مربح، فمرحبا بالدولار وهو ثمانية أضعاف الدرهم. السينما تجارة أيضا. أكتب هذا بدهشة لأن ثقافة اليسار العنيد علمتني أن أكره التجارة. التجارة أفضل من الحروب، ولا بد أن أراجع تصوراتي. والتجارة تسهل عيش الشعوب، وقد أسس الفينيقيون مراكز تجارية خالدة على شواطئ المغرب.
ننتقل الآن لما فوق الحانوتي، ننتقل للربح الثقافي، أكتب هذا وأشاهد ملتقى ألعاب القوى في بروكسل. وليس هناك عدّاء مغربي على المنصة. انتهى زمن سعيد عويطة وهشام الكروج. على صفحات الجرائد أخبار تسد الشهية: نفي 200 مقاتل مغربي معتقلين بعد عودتهم من سوريا، نفوا لأنهم يشكلون خطرا على المغرب. أعلن وزير الداخلية المغربي تفكيك 124 خلية إرهابية منذ سنة 2002. هل يفترض أن نقرأ الرقم كنجاح مدوّ؟ نعم. من جهة ثانية ذكر تقرير أميركي أن المغرب ثالث دولة مصدرة للجهاديّين إلى سوريا. خبر ثالث «متشددون يبسطون نفوذهم على عشرات المساجد بالبيضاء وضواحيها ووزارة الداخلية تدخل على الخط». لاحظوا وزارة الداخلية لا وزارة الأوقاف...
هذه أخبار يدعم بعضها بعضا في اتجاه واحد لصياغة الإنسان ذي البعد الواحد: القاتل باسم الجهاد. ليس لدي ما أضيفه لأني صرت واثقا بأن وزارة الداخلية هي أفضل من يفهم ما يجري. يبدو أن البوليس وحده في ميدان المواجهة، لا أثر للأحزاب والمجتمع المدني ورأي المثقفين. لا بديل من «الحل الأمني» هنا والآن. ولا وقت للنقاش والأيدي على الزناد... يبدو أن عدد المرات التي أطلقت فيها الشرطة المغربية الرصاص في 2014 يفوق كل تاريخها. لكن هل يكفي الحل الأمني لصد التشدد والإرهاب؟
لا.
هنا يأتي دور الفن، دور السينما. إنها توسع خيال المتفرجين للقبول بالتعدد والاختلاف. وما منْع المتشددين للصور والموسيقى والتماثيل إلا خوفاً من شعب بخيال خصب.
في مصر، عرف برنامج الراقصة نجاحاً مدوّياً، فعشرات الملايين شاهدوا واستمتعوا، وأرقام يوتيوب لا تكذب. لكن بضع مئات من الفقهاء يعارضون الرقص ويفرضون موقفهم، لأن السيسي ملزم بدفع ثمن دعم السلفيين له ضد الإخوان. ومن نتائج هذا الثمن، خنق الفن والثقافة وترك الساحة فارغة ليملأها المتشددون، ومصر تقود الركب من جديد. ولن يحقق البوليس نصراً على التدين التعبوي الذي يأكل الأخضر واليابس... في 1980 بلغ عدد مرتادي قاعات السينما في المغرب 45 مليون شخص، أي أكثر من ضعف عدد السكان. حينها لم يعرف المغرب تشددا مثل اليوم. الفن يجعل العقول منفتحة، يوفر للناس بدائل، يمنحهم آفاقاً. وهذا ربح لا يقاس لا بالدولار ولا بالدرهم.
بالنسبة لرجل العلاقات العامة، لا حاجة للاستدلال. فهو يعرف أن السينما والثقافة والإعلام منصة رهيبة لتقديم صورة مشرِّفة للبلد. من كان سمع بقطر أو عرف موقعها قبل قناة الجزيرة؟
كثيرون من المغاربة يظنون لبنان أكبر بلد في العالم العربي. كل الكتب جاءت من لبنان، كل المجلات جاءت من لبنان، كل المطربين جاؤوا من بيروت، بينما المغرب في الظل، خاصة أن المغاربة ضعاف في العلاقات العامة ولا يعرفون تسويق بلدهم. وعندما تأتي فرصة لذلك يكثر النواح بحجج منقبة.
ففي المغرب صور أورسن ويلز وألفريد هتشكوك وتوم كروز ونيكول كيدمان وراسل كراو وريدلي سكوت... وفي 2013 شاركت الأفلام المغربية في 140 مهرجانا دوليا. شخصيا، تحدثت في مهرجان مراكش إلى عباس كياروستامي ودارين أرونوفسكي وامير كوستوريكا... لقد منحت السينما انطلاقة جديدة لحياتي. تجاوزتُ فكرة الانتحار وصرت متفائلا.