للدخول السياسي والاجتماعي في المغرب طعم حسابي. فالحكومة تحصينا للمرة السادسة في تاريخ المغرب الحديث، أي بعد الاستعمار. ويجري ذلك بوتيرة مرة كل عشر سنوات. كان الإحصاء الأول في 1960 وكشف أن عدد المغاربة هو أحد عشر مليونا ونصف المليون. الثاني كان في سنة 1971 وكشف أن المغاربة تزايدوا بنسبة 2.5 في المئة وصاروا خمسة عشر مليوناً و300 ألف. والثالث جرى في 1982 وكشف أن السكان تزايدوا بنسبة 2.7 في المئة وصاروا عشرين مليوناً ونصف المليون. والرابع جرى في 1994 وكشف زيادة السكان بنسبة 2 في المئة وصاروا ستة وعشرين مليون نسمة. الإحصاء الخامس جرى في 2004 وكشف أن المغاربة زادوا فقــط بنسبة 1.4 في المئة وصاروا ثلاثين مليون تقريباً. والملاحظ هو تراجع نسبة زيادة السكان إلى النصف بين 1982 و2004. وهذا يعني أفواهاً أقل ومشاكل أخفّ. وهذا من مزايا سياسة تحديد النسل التي طبقها الملك الحسن الثاني في الدولة وفي بيته. فقد خلف أميرين فقط. وهذا أمر يقلل النزاعات التي تجري بين ستين أميراً في بلدان أخرى.
جرى الإحصاء من 01 إلى 20 أيلول/سبتمبر 2014 وهو مقسم إلى أربع مراحل:
إعداد جهاز الإحصاء، وتكوين المشاركين، وإنجاز الإحصاء، وفرز المعطيات الإحصائية واستغلالها.
تم تسجيل كلفة الإحصاء ضمن ميزانية الدولة 2014، وتم تجنيد أكثر من خمسة وسبعين ألف موظف جلهم من قطاع التعليم، وخاصة المعلمين. جرى مسح خرائطي للمغرب وتمّ تقسيمه – على الورق - إلى ثمانية وأربعين ألف منطقة. بعدها، وبدءاً من نيسان/أبريل الماضي، شُرع في تكوين المدربين على مستوى الولايات (المحافظات) في 82 مركزاً. ثم قام هؤلاء بتكوين المُحصين خلال شهر آب/اغسطس الفائت.
في المرحلة الثالثة خرج حوالي ثمانية وأربعين ألف محصٍ ولمدة عشرين يوماً للميدان، كل محصٍ يمرّ بكل المنازل مسكونة وفارغة، يصفها ويحصي سكانها. يقوم الباحث الإحصائي بتسجيل معطيات ديموغرافية وسوسيو ـ اقتصادية عن الأفراد المقيمين في البيت وعن علاقات القرابة... يسأل عن الإعاقات الجسدية والذهنية والمشاكل الصحية الدائمة مثل البصر والسمع والمشي والتذكر والتركيز. يسأل عن ظروف السكن ومرافقه. في العمارة شقق مغلقة هي ملكية لمهاجرين في أوروبا. يسأل عن لغة التواصل، عن المستوى الدراسي والتكوين المهني. عن اللغات التي تتقنها مرتبة حسب درجة الإتقان. العمل، أو البطالة وسبب عدم البحث عن شغل... وسيلة النقل، خاصة أم عمومية. والسؤال الغريب: هل زوجتك تقيم معك؟ وأين كنت تسكن في 2011؟ (عام انطلاق الربيع العربي/ الأمازيغي).
كان المحصي يسألني وكنت أسأله بدوري لتحرير هذا المقال. لربح الوقت لا يطرح كل الأسئلة التي لديه في الاستمارة، يخمّن أجوبتها من أسئلة سابقة. لا يسأل عن المرحاض حين يصعد في عمارة من الإسمنت المسلح. وقد عرفت لاحقاً أن هناك أسئلة خاصة بمدن الصفيح، وأضاف الساخرون في المقهى أسئلة لم تطرح على المغاربة في الإحصاء ومنها:
ما هو المبلغ الإجمالي لقروضك الاستهلاكية؟
هل ترضيك الخدمات الاستشفائية؟
هل تلبي المدرسة العمومية حاجيات أبنائك المعرفية؟
كم مرة دفعت الرشوة للحصول على حقك؟
من جهتها طرحت جماعة "العدل والإحسان" المحظورة سؤالاً جدياً حول "استغلال المعطيات الإحصائية". وقد أكدت المندوبية السامية للتخطيط – وهي الجهة المنظمة للإحصاء - أن المعلومات ستستخدم لغايات علمية، وأن عملية الإحصاء عملية تقنية محضة لا دخل للاعتبارات السياسية فيها. لكن واقعة فتحت آفاقاً أخرى للحدث: أوردت الصحف اتهام جماعة العدل والإحسان السلطات بإقصاء عدد من أعضائها من المشاركة في تنظيم الإحصاء السكاني. وقد استنكرت الجماعة هذا الإقصاء. فاندلع جدل حول تسييس الإحصاء. من يُحصِي؟ ومن يحصَى؟
بالنسبة للسلطة، فالجماعة غير العنيفة تقاطع كل شيء بما فيها الانتخابات. ومنطق السلطة هو أن على الجماعة إما أن تشارك أو تقاطع. المشاركة الانتقائية غير مسموح بها. لقد صارت خيارات الإسلاميين صعبة، عليهم إما المشاركة أو المقاطعة أو الهجرة في سبيل مستقبل ما.
جدل آخر يخصّ فيلات الأغنياء في الدار البيضاء الذين رفضوا أن تُعدّ وتحصى النعم التي يرفلون فيها. والصحيح أنهم يتعاملون بوقاحة مع الدولة التي وفرت لهم بيئة ليزيد الشحم في كروشهم... ومع ذلك ينظرون باحتقار للوطن الذي يجمعهم بالآخرين، أي نحن. وقد تمنّيت أن يتم قطع التيار الكهربائي لمدة شهر عن كل فيلا أهانت الموظف المُحصي.
لمواجهة هذه العقبات حرصت الجهة المنظمة للإحصاء على إصدار بلاغات للرد على الإشاعات مع التذكير بدعم الملك للإحصاء في رسالة وجهها لرئيس الوزراء.
عدا عراقيل صغيرة، فقد جرى الإحصاء وفق ما رُتِّب له لأن سيطرة الدولة على مجالها شامل. لا وجود لفلتان أو لفرصة أن يفعل كل فرد أو عشيرة أو قبيلة ما يريد. الجديد هو أن الأسئلة المطروحة (وهي معيارية، معتمدة دولياً، وتتجاوز الإحصاء النسمي إلى السوسيو ـ اقتصادي وفق المعيار المتعارف عليه) تبدو للناس أبسط مما يجب. وأبسط من صورة وزارة الداخلية في مخيال المغاربة. فما زالت مترسخة في نفوسهم صورة الإحصاء في عهد سنوات القمع. مشاعر الناس ما زالت في تلك المرحلة، مرحلة أكد فيها الآباء للأبناء بأن "للجدران آذان". والحل هو الصمت. حينها كنتُ أقطن مع جدتي في البادية، وكان الفلاحون – وما زالوا - يعتبرون الإحصاء حيلة لتسجيل ممتلكاتهم بغرض فرض الضرائب عليهم، لذلك يجعلون المشهد يبدو أسوأ مما هو عليه. وهذا ما يطرح سؤال تطابق الأجوبة مع واقع الحال. في أول إحصاء كنتُ طفلاً في البادية وكان السؤال: بم تضيئون؟ أجابت جدتي: الشمع.
ولم يكن ذلك صحيحاً. كانت لدينا قنينة غاز تضيء وتدفئ الغرفة جيداً وكان ثمن مصباح القنينة يزيد عن ثلاثين دولاراً يومها. أتذكر ذلك كأنه حدث البارحة، لأنه المرة الوحيدة التي ضبطت فيها جدتي تكذب.
صدقاً أم لا، يسجل المحصون الأجوبة التي يحصلون عليها، ويتوقع أن تعلن نتائج الإحصاء في كانون الاول/ديسمبر المقبل. وهذا يطرح سؤال استخدام هذه النتائج في الانتخابات الجماعية التي ستجرى في حزيران/ يونيو 2015. ففي آخر انتخابات كان الوضع الديموغرافي للمغرب هكذا: فالشعب هو 33 مليون نسمة فيه 25 مليون شخص فوق 18 سنة. لكن ربعهم فقط كانوا مسجلين ككتلة ناخبة. فمن الرابح من عدم تطابق الجسم الديموغرافي مع الجسم السياسي؟