الفيزياء الاجتماعية تتعرى في كل عيد

في عيد الأضحى، كما في كل المناسبات الدينية والاجتماعية الكبرى، تتعرى الفيزياء الاجتماعية لأن كل فرد يريد أن يستفيد، وبأقصى سرعة. هكذا تظهر ممارسات تُقدّم على أنها ظرفية، لكنها لب السلوك الاجتماعي للأفراد... يتم بناء منشآت مؤقتاً بمناسبة عيد الأضحى، لكن المؤقت يصير أبدياً. من ذلك بناء حوش صغير أمام العمارة بمناسبة العيد، لحفظ الخراف ثم ذبحها. وبعدها صار الحوش يؤدي وظائف أخرى. وقد
2014-10-08

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
(من الانترنت)

في عيد الأضحى، كما في كل المناسبات الدينية والاجتماعية الكبرى، تتعرى الفيزياء الاجتماعية لأن كل فرد يريد أن يستفيد، وبأقصى سرعة. هكذا تظهر ممارسات تُقدّم على أنها ظرفية، لكنها لب السلوك الاجتماعي للأفراد... يتم بناء منشآت مؤقتاً بمناسبة عيد الأضحى، لكن المؤقت يصير أبدياً. من ذلك بناء حوش صغير أمام العمارة بمناسبة العيد، لحفظ الخراف ثم ذبحها. وبعدها صار الحوش يؤدي وظائف أخرى. وقد يظهر حوش أمام العمارات المجاورة، ليس للضرورة بل من باب العدوى والعناد والتسابق. فمن سبق غيره وسيّج مكاناً صار ملكاً له. وقد انتقلت العدوى إلى فيلا قريبة من العمارات فيها كراج أمامه كوخ يبيع الخبز كُتب عليه «خبز الدار» زائد رقم الهاتف. يقول المثل المغربي «إفعل ما يفعله جارك أو إرحل من قربه»، أي إتبع القطيع.

وبمناسبة القطيع، ذكرت وزارة الفلاحة المغربية أن قطيع أكباش المغرب يكفيه ويزيد. فعرض الأغنام في السوق يصل إلى 7.7 ملايين رأس، مع توضيح مهم هو أنها تتشكل من 4.6 ملايين رأس من ذكور و3.1 ملايين رأس من النعاج والماعز، ومع تأكيد الوزارة على جودة القطيع وسلامته من الأمراض المعدية. فرح الفقراء بعيد اللحم، بينما تمنى شخص غاضب من الطبقة المتوسطة لو ذبح إبراهيم ابنه إسماعيل، إذ لما حصلت كل هذه الأوساخ في شوارع الدار البيضاء. ومع الأوساخ مهن موسمية عشوائية على الأرصفة لبيع التبن والفحم وشحذ السكاكين... حتى أن كثيراً من التلاميذ في الثانوية يبيعون التبن والفحم. وشعارهم «الدراسة بعد العيد».

تقول إحصاءات إن في المغرب 250 ألف بائع يحتلون الأرصفة، ومنهم 75 ألفاً في الدار البيضاء وحدها. وهم تجار يملكون رأسمالاً ضعيفاً ولديهم هامش ربح جد منخفض. لكنهم مفيدون. فبائع الفحم على عربة يجرها حمار يقدم أسعاراً لا تنافَس من قبل السوبرماركت الذي صار يبيع الفحم. إنه عالم اقتصادي يتعرى تماماً في عيد الأضحى.

قبيل العيد، الأكباش في كل مكان. تنقل بسهولة في توك توك الشعب (دراجة بثلاث عجلات). وهي أكباش بدوية ومدينية. والأخطر هو النوع الأخير. فأكباش المدينة تتغذى من آلاف المزابل في الشوارع. ترعى نهاراً أو يتولى سائقو عربات تجرها الحمير نبش الزبالة لجمع قشور الخضار التي تباع لمربي الماشية في المدينة... بسبب الرعي العشوائي في الأحياء الشعبية، انقرضت المجالات الخضراء وغطتها المزابل ـ المراعي. وبسبب الزبالة، تصير الاكباش متسخة. لكن يتم غسلها قبل العيد فتصير نظيفة من الخارج، وحين سيطبخها المشتري ستنبعث رائحة مقرفة من الطنجرة...

يمكن الحصول على الكبش غالباً بقرض، أو بالمشاركة في مسابقة، أو شراء شقة والحصول على كبش هدية. حالياً يستفيد السياسيون من حاجة الناس للأكباش. لذا تروج حالياً أكباش الانتخابات في سبيل الله. تقدم خدمات للزبائن الانتخابيين. لا ينسى الزبون إحسان المرشح إليه في العيد. ويؤكد الرجل الثاني في الدار البيضاء أن ما يهبه من مال الآن لا صلة له بالانتخابات. وهذا وعد مضمر بأن مال الانتخابات على حدة وسيأتي وقته. ومع الوعد رخص بالمزيد من البناء العشوائي. وفيه يتم التغاضي عن استيلاء كل فرد على بضعة أمتار أمام بيته. هذا السلوك ليس خرقاً للقانون، لأن هناك ترخيص «شفوي» مقابل صوت الناخب. المعادلة واضحة: استباحة المُلْك العمومي مقابل التصويت. ويتم هذا الاحتلال من تحت ومن فوق.

فمن يسكن في الطابق الأرضي توسع في هامش الحديقة المحاذية. بنى كوخاً أو عشاً خشبياً أو قصديرياً وصار دكاناً يسترزق به، أو سيّج قطعة من الحديقة فهيأ المجال على مزاجه وصارت حظيرة لغنمه وزريبة وسط العمارات. في حالات أخرى، فتح السكان في الطابق الأرضي باباً في ظهر الصالون لتجنب الدخول من الباب الرئيسي للعمارة... هكذا تجري حيازة الفضاء العام وخصخصته. لقد انتقلت ثقافة الحَوش من الريف إلى العمارة. كل شخص تتوفر مساحة صغيرة أمام بابه يريد الاستيلاء عليها. حتى في المقهى، يتصرف الزبون وفق المنطق نفسه. يمد رجليه على كرسي أمامه ويستمع للموسيقى بصوت مرتفع. قلت لأحدهم «استمع لوحدك»، تجاهلني فاقترحت على النادل وضع إعلان للزبائن «المرجو شراء الكيت» أي سماعات الأذن.

ساكن العمارة بحاجة إلى الحوش، لكنه بحاجة إلى خُم أو حمام تقليدي وهذا مكانه فوق العمارة. فمن يسكن الطابق الرابع يستغل السطح المشترك فيخوصصه. يبني حماماً بالطين. الحمام المستقل ضرورة لأن عدة أسر تقطن الشقة الواحدة، وقد تكون غرفة. وتجري كل طقوس الحياة اليومية في مكان ضيق... حتى النوافذ تصير وسيلة لخوصصة الفضاء العام. في عمارة يصنع ساكن الشقة شباكاً للنوافذ، ويحرص أن يكون بطن الشباك مثل بطن حامل بتوأم. والغاية هي الاستيلاء على ثلاثين سنتمتراً من الفضاء العام... الخطير هو أنه تولد أوكار عشوائية فوق البناء المهيكل. حتى أن من يملك شجاعة وعلاقات مع المنتخبين يبني غرفة فوق سطح العمارة. يزوج فيها ابنه أو يكريها. المهم أن يحصل على بعض الرزق.

رزق غير مهيكل، يسميه المغاربة «الرزق المعلق»، أو حامض. وينطبق عليه مثَل عنب المغنية الإماراتية أحلام «واللي ما يطول العنب حصرماً (حامض) عنه يقول». لتحقيق هذا الهدف الحامض يجري خرق مستمر للقانون. لكن هؤلاء ليسوا مجرمين، فمن سمات المجرم الأنانية المطلقة والرغبة في الهدم.

هؤلاء لا يهدمون بل يبنون جسوراً للوصول لرزق ظرفي في العيد عندما يحتاجهم الميسورون لعدة أيام فقط. فالطبيب والمحامي والأستاذ لا يريدون لمس الكبش. يريدون اللحم فقط نقياً. وهذه خدمة يؤديها العاملون في الاقتصاد العشوائي. وهؤلاء يتعرضون للشتيمة من الأفراد المتبرجزين والطبقة الوسطى التي تملك الموارد وتريد مجالاً نظيفاً من الفقراء والحمير والأكباش... يسهل شتم ممارسي الاقتصاد العشوائي الذين يخترقون المجالات المهيكلة. لكن سيكون ذلك تجاهلاً لكون الضرورة الاقتصادية ساحقة هنا. ساحقة بمعنى مهمة، وساحقة بمعنى تحوِّل حياة الإنسان إلى غبار.

مقالات من المغرب

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

للكاتب نفسه