جدتي سيّدة الحكي

استيقظتُ وقد أعدتْ جدتي الفطائر، قبلتُ رأسها وجلستُ لنفطر، طلبت مني إحضار العسل، دهشت، سألتها "أين هو؟" قالت دون أن تضحك: "تحت الوسادة التي تنام عليها". هكذا كانت لحكايات جدتي فائدة عملية. حكايات تحذيرية أكثر مما هي مضحكة. حكايات لليقظة وليست لما قبل النوم. حكايات تقدم حقائق لا نكتشفها إلا متأخرين.
2013-03-06

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
من دفتر:
حكــاياهنّ

في بداية 2009، عام تأديب الصحافيين في المغرب، حلمتُ أني اعتقلتُ بسبب مقال عن النخبة المترهلة، الهرمة والفاسدة. وقد اضطرتْ جدتي لقطع 700 كيلو متراً لزيارتي. رأيت المحنة التي تعرضتْ لها وهي تقف باكية في صف طويل بين مئات النساء وعشرات الرجال في باب السجن. استيقظتُ فَزِعاً. أخجل من دمع جدتي. بعدها صرتُ أجد صعوبة في كتابة المقالات السياسية. ركزتُ على تحليل الأفلام.

فبعد كل هذا العمر، لا تستحق جدتي أن تُهان وتبكي. في الغد اتصلتُ بها، تحدثنا قليلاً وودعتها. وكالعادة بعد المكالمة وضعتْ هاتفها جانباً. لا تعرف كيف تغلق الخط، وبذلك أسمعها تكلِّم نفسها. تعترف بما لم تقله لي أثناء المكالمة. تردد "تعبتُ يا ولدي... يكفي أني عشت حتى رأيت أولادك".

لهذه الجملة طعنة وداع مزلزلة من امرأة تسلمتني وعمري بضعة أيام، وذلك بعد أن ولدتني أمي وهي لما تبلغ السادسة عشرة من عمرها.

كانت جدتي تعد فطائر لذيذة بالعسل. كنا نقيم في غرفة واحدة، ربعها مطبخ. كان سني ست سنوات وقد بدأ رمضان للتو، كنت أحب الفطائر بالعسل، وأحب العسل أكثر، لذا كنت أنتظر خروج جدتي إلى الحقل لأشرب العسل. حصل ذلك في اليوم الأول والثاني من رمضان، لكن في اليوم الثالث، اختفت قنينة العسل من الغرفة، بحثتُ عنها طيلة النهار، وفي كل الأيام الموالية، كنت أراها فقط وقت الإفطار عندما تأتي جدتي بالفطائر من الفرن، ثم تختفي. انتهى رمضان وحل عيد الفطر. استيقظتُ وقد أعدتْ جدتي الفطائر، قبلتُ رأسها وجلستُ لنفطر، طلبت مني إحضار العسل، دهشت، سألتها "أين هو؟"

قالت دون أن تضحك: "تحت الوسادة التي تنام عليها".

قصدت الوسادة المحشوة بالصوف فوجدت القنينة، أخذتها وأنا آسف لكل الوقت الذي قضيته أبحث عنها. كم من مشكل يوجد حله على بعد سنتيمترات من جماجمنا ولا نراه.

هكذا فتحتُ عيني في البادية وجدتي تطبخ لي وتحكي. تطعم البطن والعقل. وهكذا كانت جدتي، امرأة الظل، معلمتي الأولى.

لم يكن الحكي بعيداً عن الطبخ. فقد كان الموضوع الرئيس للحكايات هو الصراع على الأكل. دلالياَ، لا تقلّ الحكايات دسماً عن الوجبات. في البدء، في عصر النّية، كانت الحيوانات تتكلم في حضرة ملكها المعظم. كيف أصبح الأسد ملكاً؟

تقاتل أسدان والذي انتصر صار ملكاً.

كان لدي اعتراض: كيف يكون للحيوانات ملك من غير جنسها؟

لا يمكن أن يتصارع ثور مع أسد ليكون الأسد ملك البقر. لنعرف من القوي يجب أن يتعارك متشابهان من الوزن نفسه.

بين البقر يجب أن يكون أقوى ثور ملكاً. يجب أن يكون للقردة ملك منها.

كانت هذه واحدة من المرات التي واجهتُ حكايات جدتي بأسئلة لم تملك عليها جواباً. حين كبرتُ غيّرتُ السؤال: لو كان لكل نوع ملك من طائفته، كم من ملك ومملكة ستكون؟ كثير. إذاً من الأفضل أن يكون الأسد ملكاً على الثيران والقردة، ويفترسها حين يجوع.

هزم الأسدُ الجميع، لكن امرأة شتمته بأن فمه قذر لأنه يأكل الجيف. يصطاد وتتغذى الثعالب على الفضلات. كانت كلمة الفضلات تستفز جدتي، فقد كانت تُستدعى للطبخ في الجنازات. يقدم "الكسكس" للرجال أولاً، ونادراً ما يتبقى للنساء ما يكفيهن... في تلك اللحظة أدركتُ أنه من الجيد أن آكل مع الرجال. ففي صحن الرجال كثير من اللحم في الأعراس والجنازات. في مثل هذه المناسبات تتحدث جدتي بمهارة، مرة شكت إليها أم شابة - ولدت طفلاً وحبلت مرة ثانية - عجزها عن فطام طفلها. قالت لها جدتي ضعي قليلاً من الفلفل على حلمتك ودعيه يرضع. ذاق الطفل المرارة وكره الثدي.

هكذا كانت لحكايات جدتي فائدة عملية. حكايات تحذيرية أكثر مما هي مضحكة. حكايات لليقظة وليست لما قبل النوم. حكايات تقدم حقائق لا نكتشفها إلا متأخرين.

كانت هذه الحكايات تملأ وقتي بالمجان. بينما الآن يحتاج الأطفال إلى إنفاق النقود باستمرار لملء وقت فراغهم. وغالباً ما تحتل الحلويات أولوية الإنفاق، فيزيد وزن الأطفال بشكل مضر بالصحة. حالياً صار الحاسوب هو المعلم الأول للطفل، والحاسوب يجعل المتعامل معه عصبياً، ينتظر استجابة فورية بعد كل كبسة فأرة. وينتظر الاستجابة الرقمية نفسها من البشر. وتشتد تلك العصبية لدى طفل في أسرة نووية ربته أم لم تبلغ الثلاثين. تضربه ليأكل ولم يُتمْ عامه الأول، وتصرخ ليلبس ويغسل. وفي النهاية فالعنف يسحق خيال الطفل. ومن ضعُف خياله صار عدوانياً.

غالباً تحرص الأمهات المبتدئات على نظافة ملابس أطفالهن أكثر من حرصهن على نظافة مزاجهم وخيالهم. الخيال أهم من سروال غير ملطخ بشكولاتة.

لقد ربتني جدتي وخصصت لي كل وقتها، في حين أن أمي لم يكن لديها وقت لتخصصه لي. كان وقتها مستنفداً تماماً بين إخوتي والمطبخ وأبي. كانت جدتي تستمع إليّ وهي تنظر في وجهي. تحدثني بانتباه وتشرح لي بهدوء وبصبر عظيم. حين أخطئ تمد يدها وتقرصني بشدة، فلا يعلم غيري أني تعرضت لعقوبة، وغالباً ما أكتم الألم لأن جدتي تردد: "الخسارة التي لم يعلم بها أحد ربح".

حين قرأتُ اعتراف ابن حزم في "طوق الحمامة" أنه تربى في "حجْر النساء" فهمت مساري. قبل حفل الزفاف، اشترطتْ عليّ خطيبتي ألا أحكي لها أية حكايات حين نجلس على منصة الفرح كي لا تضحك فيفسد الماكياج. قلت لها: كيف لا أحكي وثلاثة أرباع وزني حكايات؟

في العطل الصيفية أكتري شقة مفروشة في الطابق الخامس مطلة على البحر وأصطحب جدتي معي. في الشرفة نقضي جل الوقت قبالة البحر نتحدث، تخشى جدتي أن تموت قبل أن تنقل لي كل الحكمة التي تختزنها. أصغي إليها وهي تراث عالمي. أسجّل الحكايات والأمثال. نتحدث عن الزمن، تقارن الحاضر بالماضي، تشعر بالخيبة والفزع بسبب الغلاء. عندما أتسوق تسألني عن أسعار بعض السلع وتستغرب من مستويات الغلاء. البطاطس الحلوة - التي تحبها لأنها تُبلع من غير مضغ ـ بدولارين للكيلو. أي ربع دولار للحبة الواحدة. يـــاه!

مرة اشتكتْ جدتي من التعب. لها ذهنية متطلبة وبدن ضعيف. أخذتها إلى الطبيب وطمأنها بأنها متعبة لا مريضة. هنأها لأنها نحيفة، ولن يجد المرض أين سيعشش فيها، قالت للطبيب "محركي تعب".

بين حكاية وأخرى تغفو جدتي وتنام... هنا تتاح لي الفرصة لأتأملها عن قرب وقد تدهورت صحتها. تزعزعني العروق البارزة في يديها وعظام وجهها التي صارت مكسوة بجلد رقيق. تستيقظ فتجدني أتأملها، تجد الذعر في عيني... 

مقالات من المغرب

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

للكاتب نفسه