مع توالي الأنباء الكارثية عن هدم أضرحة ومزارات الأولياء الصالحين في كل من ليبيا وتونس ومالي، يتضح أن صلحاء المغرب بخير. يردد الكثيرون هنا أنه إذا كان المشرق مخصوصاً بالأنبياء، فإن المغرب حباه الله الأولياء. وهؤلاء هم ورثة الأنبياء. وهم يحظون بزيارات دائمة.
أولياء متعددون
في زاوية تازروالت جنوب المغرب ينعقد موسم الفقراء إلى الله. وفيه أمداح نبوية وعرس ديني سنوي يمتد منذ أكثر من أربعة قرون. قرب مدينة مكناس وسط المغرب ينعقد موسم الولي الصالح سيدي علي بن حمدوش. وفيه تُرجى البركة من عين ماء ومن شجرة. المتميز في هذا الولي أنه يستقبل المثليين. كل سنة يجري التنديد بالفاحشة، تقيم الشرطة حواجز وتفحص وجوه المسافرين بحثاً عن ذوي ملامح مؤنثة. ترتفع المطالب بإزالة المقام. ثم ينعقد الموسم في السنة التالية. في مدينة برشيد قرب الدار البيضاء يرقد «بويا عمر» الذي يُرجع العقل للمجانين. كيف؟ يُقيّدون هناك سنوات ويُنفق عليهم إلى أن يشفوا أو يموتوا. المهم أن أسرهم تتخلص منهم.
في فاس يرقد سيدي أحمد التيجاني. يزوره الماليون والسنغاليون. وجلّ الطوارق في الصحراء الكبرى من أتباعه، وهو ذخر جيوستراتيجي للمغرب، إذ يسمح للبلد بالتأثير في المنطقة لمصلحته في نزاع الصحراء الغربية. وقد أدركت الجزائر متأخرة ذلك فنظمت مؤتمراً عن السيد التيجاني بدعوى أنه جزائري مدفون في المغرب. وكل عام يُقام موسم التيجاني في داكار برعاية الملك محمد السادس ويحضره آلاف المريدين. في منطقة صفرو قرب فاس، يوجد ضريح سيدي علي بوسرغين الذي يزوره اليهود والمسلمون. وقد تلقى الضريح منذ أشهر هبة ملكية نقدية. محمد الدهان، السوسيولوجي المغربي المختص، والذي رحلعن هذه الدنيا منذ اسابيع قليلة، أوضح سبب وجود مزارات لليهود وللمسلمين معاً، قائلاً أن المزار كان وثنياً، نهر أو مغارة أو شجرة. وحين جاءت اليهودية، دُفن حبْر في المكان، ثم استمرت الزيارة. وعندما جاء الإسلام تكرر الشيء نفسه. سنوياً يزور آلاف اليهود من العالم كله المغرب لإقامة «الهيلولة» ـ موسم صلحاء اليهود ـ في مختلف المناطق، وخاصة بالصويرة. ويهود المغرب في الخارج ذخر اقتصادي وجيوستراتيجي آخر، حتى لو كانوا نواة اليمين المتشدد في إسرائيل!
الشروط الأربعة للزيارة الناجحة
تشكل هذه الحالات من الصالحين نموذجاً للمغرب المتعدد. لكن يوجد مشترك بين طقوس الزيارة والتصورات التي تصدر عنها تلك الطقوس. لفهم ذلك، اتضح أن المعاينة مقترنة بالمشاركة. لذلك رافقت أقارب لي إلى ضريح. وقد قيل لي إن للزيارة أربعة شروط: النية والفتوح والأمنية والنذر.
ـ أولاً، النية وهي حالة نفسية. يقال إنه «بفضل النية الحاجة مَقْضيّة». ومن علامات صدق النية دخول المقام الموقر بالقدم اليمنى. وكل من توجه للضريح وقد هاج قلبه واغرورقت عيناه بالدموع يرجو حاجة تحققت. يحكى عن امرأة عاقر قصدت الضريح مشياً وهي تبكي لمسافة طويلة فصارت أمّاً بعد عام. أما من ذهب مرحاً للزيارة فلن يُصغى له.
ـ ثانياً «الفتوح»، وبلغة أهل الضريح «البْياض»، وهو تسبيق ـ نقداً أو عيناً ـ يقدمه الزائر للولي الصالح. من العار زيارة الضريح بيد فارغة. فالأولياء لا يحبون البخلاء. يذهب «الفتوح» للمشرفين على الضريح وهم غالباً من أحفاده. أحفاد سكنوا المدن وامتلكوا السيارات، لكنهم حريصون على الاستفادة من بركة الجد المقدس.
ـ ثالثاً الحاجة أو الأمنية. نويتها وكتمتها في قلبي. سألت عن نوع المطالب فوجدت تيسير عمل، تسريع زواج أو إنجاب، صرف نحس وجلب قبول، مباركة تجارة أو علاج مرض أعجز الأطباء... في القرى النائية تقصد العجائز والعوانس الضريح بدل التوجه للبرلمان للاعتصام والاحتجاج على التهميش. ليست الأمنية محلية فقط، إذ يمكن لمغربي مقيم في بروكسل أن يبعث أخاه ليزور الضريح ويقدم القربان فتتحقق الأمنية. واضح أن للولي نفوذ معولم. وهذا مفيد لأمنيتي. في بعض الأضرحة يقدم الزائر «الفتوح» ويضع آنية فيها دقيق تحت الثوب الأخضر الذي يغطي القبر. يبيت الزائر في فندق قرب الضريح وهو صادق النية محزون النفس. وفي الصباح ينظر في الدقيق فيجد علامة بمثابة «الجواب في الحين».
ـ رابعاً النذر، وهو المكافأة الختامية التي يلتزم الزائر بتقديمها للولي الصالح في حال تحقق الأمنية. والويل لمن لم يف بنذره. وفي هذا تروج حكايات يشيب لها الولدان عن العقوبات التي أنزلها الضريح بالزوار الكذابين. أذكر واحدة: تحكي امرأة أنها زارت ضريح المولى إدريس الأكبر وتمنت أن تنجب ذكراً وعرضت نذراً. وبالفعل بعد مدة أنجبت طفلاً. وبعد خمس سنوات غرق ابنها في حوض حمام الفيلا ومات. حينها فقط تذكرت أنها لم تلتزم بالنذر. وللتكفير عن كذبها اشترت كبشاً وقصدت الضريح وبكت بحرقة على ابنها. وحين حبلت مرة ثانية سمت الولد «إدريس» وأحضرت للضريح نذراً مضاعفاً. للإشارة أغلب حكايات تحقق الأمنيات نسائية.
كيف يصبح شخص ما ولياً؟
ويصير وسيطاً بين الله والناس. لا بد له أن يتميز عن العامة والفقهاء بالعبادة، بالزهد، بمحو الذات، بحيث يتماهى مع النص القرآني ويقوم بتنزيل التقوى في المعاملات، ثم يزور قبر النبي فتحصل له «البركة». يرى الناس ذلك فيدركون أن الرجل مختلف. ما هي وظائف البركة؟ هي «الرأسمال الرمزي» الذي خلفه الولي الصالح، يتوارثه أحفاده ويستخدمونه للسيطرة وللنظر في شؤون الناس ومعاشهم.
في المغرب أكثر من ألفي ضريح، لذا يسمّيه المستشرقون ببلد الشرفاء. كثير من المدن والقرى يبدأ اسمها بـ «سيدي» على اسم الولي الموقر المدفون فيها. تسمّى مراكش «مدينة سبعة رجال» ويقال أنهم سبب ازدهارها وأمنها من الإرهاب... بلغ التصوف أوجه في القرن السابع الهجري، الثالث عشر الميلادي، وقد بدأت مدن الأندلس تتساقط بعد معركة حصن العُقاب سنة 1212. كثر التصوف في هوامش المدن الكبرى «الفاسقة». ويُعَد ابن الزيات مؤلف كتاب «التشوف إلى رجال التصوف» أول من أرّخ لمناقب المتصوفة، وهذا الكتاب مهم يدخل ضمن أدب الخلاص والتوبة. وهو دليل على أن السرد الصوفي أهم من المنجز الشعري في المغرب. الكتاب من تحقيق وزير الأوقاف الحالي أحمد التوفيق. وهو مثقف من طراز رفيع ينتمي للزاوية البودشيشية. واختياره للمنصب رسالة لخصوم الزوايا والأضرحة.
تسحر أخبار كتب المناقب القلبَ وينكرها العقل. أخبار تسمى كرامات ويسميها رضّاع الشك أساطير. زعم جورج لوكاش أن «الأسطورة بلا بُعد تاريخي». هذا غير صحيح. فللبركة بعد تاريخي وللأولياء وزن سياسي حاسم في خدمة الشعب. فهمْ أوتاد البلاد وعماد استقرارها.
ما يعتقده الناس
أهم من كل درس يُملى عليهم
بُنيت جل الزوايا والأضرحة في الطرق التجارية قرب الوديان. وهنا تقام المواسم الدينية والتجارية. وقد تولّت الزوايا حفظ الأمن. فمواسم الولي مثل الأشهر الحُرم لا يجوز فيها القتال. وبذلك تزدهر التجارة. تباع السلع التي تصير قرباناً في باب الضريح. كلما كثر الزوار زاد الربح. يمكن شراء تيس أو ثور قرب ضريح، يذبح في عين المكان ويأكل الكثيرون اللحم مجاناً. الموسم فرصة للاستهلاك، وللعلاج، فبعد فشل الطب يعود الكثيرون للولي ليخلصهم من الألم. واضح أن الولي أكثر من عظام في قبر. وهو يتابع أداء كل الوظائف السابقة في القرن الواحد والعشرين. وما يعتقده الناس أهم من كل درس يُملى عليهم. فالولي مثقف عضوي، يقيم بين الناس وليس في برج عاجي. هَضَم أسئلة المرحلة وأجاب عليها عملياً لا نظرياً. يحرث ويطعم ويعالج. وليس من السهل اقتلاعه من مكانه ومن الوجدان الشعبي.
للإشارة فقد عرفتُ وزن الأضرحة من خلال فيلم «الزفت» للطيب الصديقي. فيلم مقتبس من مسرحية «سيدي ياسين في الطريق». وفيها تأتي الدولة بمشروع تعبيد طريق. رسم المهندسون مسارها فاتضح أنه يجب هدم ضريح سيدي ياسين لتمر مكانه. هل تسمح القبيلة بهدم الضريح أو نقله لإنشاء طريق؟
القبيلة تقول لا. فالولي يجلب البركة والمس به يجلب اللعنة. في النهاية تم تحوير الطريق. وهذا حل وسط. حصلت القبيلة على طريق سيار ملتوٍ وبقي الضريح شامخاً يعلو فوق ثمار الحداثة.
يبدأ جنريك فيلم «الزفت» بلقطة لأرض قاحلة يهطل عليها مطر ولا تُنبت. تتراجع الكاميرا للخلف فيتضح أنها جمجمة شخص أصلع. واضح أن الزفت في الدماغ لا في الإسفلت.
الوهابيون يكرهون الأولياء
في مغرب اليوم ترتفع طلبات وقف انعقاد مواسم الأولياء. فالسلفيون والوهابيون يكرهون الزوايا والأضرحة، ويعتبرونها من علامات الشرك بالله. لذا يريد السلفيون تطهير البلد من المنكر كما فعل الوهابيون بقبور الصحابة في الحجاز العام 1925. ليتطابق ظهور المغرب مع وصول الإسلام إليه، فيصير عمره اثني عشر قرناً وهذا ما ترفضه الحركة الأمازيغية. لكن السلفيين المغاربة لا يجرؤون على المسّ بالأضرحة لثلاثة أسباب يُفصلها المدني إدكروم، وهو متصوف يساري وحفيد أحد الصلحاء:
السبب الأول، أن السلطة قوية وتسيطر على مجالها الترابي، وستجد فرصة لترجع قادة السلفيين للسجن. وغالباً سيعودون للسجن فور سقوط حكومة بنكيران.
السبب الثاني: تحارب الدولة التشيع والوهابية، لأنهما يهاجمان أركان الإسلام المغربي المتمثل في العقيدة الأشعرية وفقه مالك وتصوف الجُنيد. وهذا مصدر التجانس الديني في المغرب.
والسبب الثالث، أن تلك الأضرحة تحظى بتقدير كبير. وهي ذات انتماءات قبلية ومناطقية. فكل ولي صالح هو مفخرة للسلالة وللمنطقة التي دفن بها ومصدر رزق للكثيرين ولا يجوز المس به. يُحكى أن السلفي المغربي علال الفاسي (السلفية، نسخة محمد عبده) مر بمدينة مغربية فزار ضريح أشهر وليّ فيها. فلامه أحد أنصاره فقال له «إنها السياسة».
لم يؤد هدم الأضرحة إلى زوالها، بل سلط عليها الأضواء وأكد ضخامة دورها. لذا فعندما نصحني قريبي أثناء الزيارة بطلب «أمنية» رأيت أنه من الوقاحة أن أعتبر نفسي أذكى من القطيع. لذلك تقدمت بأمنية غير خبزية للضريح: لو ساعدني الولي على تصوير فيلم سينمائي يحصل على السعفة الذهبية في مهرجان كانْ، فسأنحر كبشاً أقرنَ للمريدين.