كشف الوزير المكلف بالعلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني، الحبيب الشوباني (من حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه بن كيران، رئيس الوزراء الحالي)، أن عدد الجمعيات يتزايد بشكل كبير في المغرب، وهو بلغ خلال العام 2012 أكثر من 90 ألف جمعية، يُعرّف جلها نفسه كـ«جمعية ثقافية وفنية». فبفضل قانون الحريات العامة الذي سُن في 1958، يمكن لأي مغربي تأسيس جمعية بسهولة. من يسمع هذا يُسْعد ويفترض أن المدن المغربية تعيش ربيع الثقافة. الأمر خلاف ذلك، رغم أن مُسيري الجمعيات يتزاحمون في بداية كل موسم ثقافي لحجز القاعات لنشاطاتهم. يندهش المرء لكثرة الطلبات. ولكن... بعد الحجز يختفي أصحاب الطلبات.
تحصل الكثير من هذه الجمعيات على تمويل. في 2011 حصلت 1214 جمعية على دعم تجاوز 80 مليون دولار. وهذا المبلغ وزعته قطاعات حكومية، وهو لا يدخل في حسابه ما وزعته الجماعات البلدية، والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي تديرها وزارة الداخلية.
كيف يُنفق المال؟
ذكر تقرير للمندوبية السامية للتخطيط، وهي مؤسسة حكومية، وجود اختلالات وصفها بالكبيرة على مستوى التدبير المالي والإداري، خصوصا أن 95 في المئة من الجمعيات المستفيدة لم تقدم أي حساب تفصيلي حول المداخيل والمصاريف، أي مرفقة بوثائق ثبوتية. صادق الجميع على هذا الكلام، وذكر أحد الظرفاء أن هذا عصر قلَّت فيه الثقة والأمانة، حتى أنه على جدران المساجد يكتبون «ضع حذاءك أمامك». لذلك طالبتْ كل جمعية بالقضاء على الفساد الذي تعاني منه الجمعيات الأخرى. وعليه فكل الجمعيات ضد الفساد.
كيف سيتم هذا؟ جواب حكومة الإسلاميين: المراقبة.
فوراً، رد «المجتمع المدني» متهما الحكومة بالديكتاتورية، وافتقاد الحوار للمشروعية والمصداقية والإقصاء والوصاية... إلخ.
«اطمئنوا. الحكومة لا تنوي إقامة محاكم التفتيش للجمعيات ولن تتحرش بأحد». هكذا أجاب الوزير لإطفاء الحرائق التي تشتعل تحت أقدام الإخوان في كل مكان. وشرح الوزير: «الحكومة تطالب فقط إعمال مبادئ الدستور في ما يتعلق بالحكَامة المالية والتدبيرية، على شاكلة الأحزاب السياسية التي تخضع لقانون تنظيمي يضمن الممارسة الديموقراطية والشفافية المالية». ولتأكيد توجهها، نشرت الحكومة أرقاما توضح مبالغ دعم مالي خارجي لبعض الجمعيات الحقوقية. فجاء الرد من أحزاب وجمعيات تتهم ُ لجان الحوار الحكومي بالغش والانطواء على «خلفيات مُبيّتة».
يشعر المواطن أن النخب المستفيدة منزعجة جدا من أي نقاش حول مصير النقود. تريد «ترك ذاك الجمل راقدا» كما يقول المثل الشعبي. ويبدو أن الإسلاميين يستجيبون. صارت الكراسي أهم بالنسبة لهم من إسقاط الفساد. ولتخفيف النقد، جرى تعيين شيوعي ثري رئيسا للجنة الحوار حول الجمعيات. 89 الف جمعية لم تحصل على الدعم. من هي الجمعيات التي استفادت؟ هي التي لها صلات طيبة بالسلطة وأحزابها. وقد انعكس ذلك على الممارسة الجمعوية التي ظهرت عليها عاهات منها:
ـ أولا، فقدان الاستقلالية. فالأحزاب تخشى تنظيمات المجتمع المدني وتعمل على إلحاقها بها، مما يتسبب في حدة الاستقطاب الانتخابي. ولأن الانتخابات موسمية، فكذلك صارت الثقافة، فلا تنشط هذه الجمعيات إلا ستة أشهر قبل كل انتخابات، ثم تدخل في سبات لأربع سنوات. وهذا ثمن هيمنة السياسي على الثقافي. فتعطي الأسبقية «للكولسة» (من كواليس!) والمناورة. وهذا عكس سمات الثقافة التي تقوم على «الوضوح».
ـ ثانيا، فقر ثقافة التطوع، أو التطوع تحت بند الربح والخسارة، بسبب تراجع الحس النضالي. وبذلك يصير الانخراط في الجمعية سلوكا نفعيا نادرا ما تُحركه قضية. لذا تحكم الشخصنة العلاقات البينية. يتحول كل صراع إلى خصومة مبتذلة في مكاتب الجمعيات. النتيجة هي التفكك والتشرذم. حتى أن الكثير من البنوك ترفض فتح حساب بنكي للجمعيات! هكذا تستهلك الجمعيات قواها في النزاعات. يتعمق هذا الضعف التنظيمي بسبب غياب ثقافة التعاقد لصالح وقوع الإطارات في يد الأقلية، مما يفقدها شرعيتها الجماهيرية. يد فيها الكثير من سمات القرابة. في الكثير من الجمعيات هناك شخصان: الرئيس وزوجته، وهي أمينة المال. وحينما يحصلان على منحة يقضيان أسبوعين معا في تركيا. ولا تنجو من هذه العاهات إلا جمعيات قليلة.
النتيجة أن في البلد آلاف الجمعيات، بينما تعيش المدن قحطا ثقافيا. هل هناك 90000 مثقف يرئسون هذه الجمعيات؟ لا. من نوادر المغرب أن فاقد الشيء يعطيه!
يردد الرفاق كل تلك العاهات في المقاهي. لكن ما أن تقولها حكومة الإسلاميين حتى تصير باطلاً لدى وسائل إعلام تقدّس «المجتمع المدني». وهذه حيل لن تضعف الإسلاميين.
ما الذي سيضعفهم؟ الجواب: تحديد ما قَوّاهم أصلا. فراغ الساحة. تراجع العمل الجمعوي الجاد والتقدمي، ولأن الطبيعة تخشى الفراغ، ومثلها العمل الجمعوي، فإنه ما أن تنسحب الإطارت الجادة أو تضعف حتى تظهر الطفيليات المتخصصة في النضال الموسمي. فيخلو المجال لسيطرة الجمعيات الإسلامية الدعوية مثل الرشاد والهداية والمنار...
كلما امتلأت المقاهي، فرغت الأحزاب والجمعيات. طبعا مقر الحزب فارغ وكئيب، بالكاد يتوافر فيه الماء. كثيرون فضلوا الانخراط في شركة بدل حزب وجمعية. من تبقَّى يعتصم لساعات طويلة في المقهى. هنا حزب الظواهر الصوتية التي تنتج كبسولات الشر الشفهي العدمي الذي ينشر اليأس ويطعن في كل تجربة مضيئة. المهم النيل من الشخص النشيط. إنه النقد من اللاموقع، أو من موقع العدم، خاصة عندما يزعم الشخص الذي يقوم بالنقد/التشويه بأنه لا ينتمي إلى أي تيار أو اتجاه. أي يتموقع في الصفر. الصراع لا يوجد في المقاهي، بل في المؤسسات. ومنها يمكن أن تخرج كرة الثلج، وتتدحرج ويحصل التغيير.