تُرْصَف القطع ذات اللونين على رقعة الشطرنج. البيادق في الواجهة والقطع الكبيرة تتخفّى خلفها. تنطلق المعركة وتتم التضحية بالبيادق لحماية القلعة ثم الملكة فالملك... تسقط البيادق تباعاً. يتألم بعضها لما يجري للبعض الآخر. لذا قررت القيام بثورة ضد القطع الكبرى، فألقت بالملك خارج البلد، وبقيت البيادق متساوية في الرقعة...
هكذا يتقدّم فيلم «كش ما ماتش» للتونسيين نذير بوسلامة وملاك فرجاني. وفيه استرجع الشعب الرقعة بشكل رمزي ساخر. فماذا فعل بها؟
عرض الفيلم في مهرجان أفلام الهواة في مدينة سطات المغربية. والمناسبة بانوراما عن سينما الهواة بتونس شملت عرض أحد عشر فيلماً قصيراً جلها مُسيس. أفلام فيها غضب زائد ضد الظلم والاستغلال، تعبير عن وعي شقي وتركيز شديد على اللامساواة. في فيلم نرى سجيناً يرسم نافذة على جدار سجنه. في آخر نرى عمالاً يكسرون الحجر ويصقلونه بمشقة في ظروف قاسية... ثم يصير ذلك الحجر تزييناً لواجهات فيلات الأغنياء.
ما الحل؟
الثورة. وهذا ما صوّره وليد مطار في فيلمه «مدرعة عبد الكريم» في محاكاة ساخرة لعنوان فيلم سيرجي إيزنشتاين «المدرعة بوتمكين» الذي يؤرخ لثورة روسيا المجهضة في 1905. في فيلم وليد مطار تصير المدرعة (البارجة) رمزاً لمفهوم الثورة. الثورة الحقيقية للشاب التونسي هي أن يصل شواطئ إيطاليا. كيف تكون الهجرة إلى الشمال ثورة؟ إنها السخرية المريرة.
ولتكتمل الصورة، دعا المهرجان سينمائيين تونسيين. رضا بن حليمة 62 سنة وفارس بن خليفة 22 سنة. شيخ وشاب تعرضا لوابل من الأسئلة حول ما جرى عندهم. وقد حاولا الإجابة بوجهة نظر غير تلك التي تروجها وسائل الإعلام.
قال الشيخ - الذي واكب حركة سينما الهواة منذ ستينيات القرن الماضي - عن حالته المزاجية قبل احتراق البوعزيزي: كنا نحس أن هناك ظلماً ونهباً للبلد. ومنذ أحداث الحوض المنجمي في 2008 كان هناك شعور بأن التغيير مقبل. ارتفعت مطالب الشعب بالشغل والكرامة. لكن لا انكر أني فوجئت بهروب زين العابدين بن علي.
بما يفسر ذلك؟ بمؤامرة. فقد كان مدير الأمن الرئاسي علي السرياطي يريد تهريب بن علي لتصير ليلى الطرابلسي رئيسة للجمهورية التونسية ويصير هو (السرياطي) وزيرها الأول.
لماذا فشلت الخطة؟ الجواب: كان ضباط الأمن يكرهون الطرابلسية الذين يستغلونهم لظلم العباد.
كان بن علي ضابطاً في الجيش صار مديراً للأمن الوطني. أول مرة شخص يعبر من قطاع لآخر ويجمع بين قطاعي الأمن والجيش. فجر فنادق وورط في بعضها الإسلاميين ليقنع بورقيبة أنه صمام الأمان. كان سفيراً في بولونيا وعاث فيها فساداً. وهو الآن مصاب بسرطان البروستات «الذي تسبّبه كثرة ممارسة الجنس» (!).
قلت: نشرت لوموند أن ليلى هربت في طائرة فيها طن ونصف ذهب. علق: غير صحيح.
قلت له إن المثقفين المغاربة غابوا عن «حركة 20 فبراير» في المغرب. ردّ بأنه حتى في تونس لم يساندوا الثورة. وإن المثقفين تجمعوا في نقابة «الاتحاد العام التونسي للشغل». التي قادت أول مسيرة. والرئيس بن علي كان يخاف النقابة فصارت ملجأ للمتظاهرين حتى لو لم يكونوا عمالاً. المقر مقدس ويحميهم. وهذا بفضل قواعد النقابة وليس بفضل قيادتها. فهذه رجعية بينما القاعدة ثورية.
لم تسترجع الثورة الكثير من الأموال التي سرقها الفاسدون. في كل الحالات، الأولغارشية (حكم القلة) هي من يمسك بالسلطة حتى لو تغيرت الأسماء. لم يغير رحيل الطرابلسية الكثير. في تونس القسمة هكذا: 20 في المئة من الثروة لـ 80 في المئة من الشعب. و80 في المئة من الثروة لـ 20 في المئة من الشعب.
هل تشعر أن الإسلاميين مؤهلين للتسيير؟ قال: لا. هل يسري الحنين لزمن بورقيبة؟ نعم ولا. أين تتجه تونس الآن؟ أجاب: نحو المجهول. وأضاف إننا نحن الشيوخ فقدنا الأمل في الثورة. زرعنا بذرة في الصحراء وتركناها.
قال الشاب إنه لم يندم على رحيل بن علي. وأكد أنه في تونس، يموت 1000 شخص في حوادث السير سنوياً، بينما قضى في الانتفاضة 330 شخصاً فقط. اضاف ثمة ناس فقراء يشعرون بالندم لأنهم لا يجدون الحليب ولأنهم يفتقدون الأمن. لم يعد بإمكانهم ملء قفّتهم والعودة لبيوتهم بسهولة. بم تفسر الثورة التونسية؟ قال: سياسة بورقيبة. التنظيم العائلي الذي أنجزه بورقيبة ساهم في الثورة. تنظيم جعل الأسر نووية، وفرتْ الوقت لأربابها.
بورقيبة دمقرط التعليم، عمّمه وجعله إجبارياً للذكور والإناث. بورقيبة حرر المرأة ووفر لها علاجاً، ولديها أطفال أقل ووقت فراغ أكثر. المرأة التونسية تناضل في الشارع. لم يكمل بن علي طريق بورقيبة.
ما مشكلة تونس اليوم؟ الجواب في فيلمي. وهو فيلم رسوم متحركة («جدار الضاحية») عن الصدام بين الإسلاميين والحداثيين. وبينما هم يتقاتلون تتراكم النفايات قرب الجدران ولا تجد من يجمعها. فيلم يدين الطرفين لأن سبب الثورة كان في مكان آخر: إنه الحاجة الى التنمية والحرية. وقد انطلقت الثورة من المناطق الأقل تنمية. وأضاف: بالنسبة للشعوب، يأتي الأمل من الجنوب. بالنسبة للأنظمة هذا الجنوب مصدر شر. وما الفرق بين الأفلام قبل الثورة وبعدها؟ أفلام الهواة مستقلة وحرة حتى ما قبل الثورة. لذا ليس هناك فارق كبير لأن أفلام الهواة ممولة ذاتياً، ليس هناك رقابة قبْلية على السيناريو. أفلام تعبر عن المجتمع بعيداً عن الرقابة ما دامت لا تعرض في قاعات ولا في تلفزيون.
هل أنت خائف على مستقبلك؟ قال لا. لماذا؟ لأنه في الجامعة، فالاتحاد العام لطلبة تونس أكبر من الاتحاد العام التونسي للطلبة (الإسلامي). وفي آخر انتخابات جامعية فازت نخبة نيّرة.
ختاما طالبت منهما استخلاص مقارنة بين المغرب وتونس. لاحظ الشيخ أن شوارع المدينة المغربية معبدة أفضل مما في تونس، واستنتج: المغرب نجا. نجا من الثورة؟ هل الثورة لعنة؟
الشاب غير معني بالمقارنة. وتعبير أن «المغرب نجا» لا يعجبه، لأن فيه حكماً سلبياً على تونس.
يبدو أن النهاية تكرّر فيلم «كاش ما ماتش» وفيه أسقط شعب البيادق ملكه فخرج منه ملك جديد... بمواصفات السابق نفسها.