"عصيد الجاهل، الضال، المنحرف، الوغد، الملحد، كاهن البربر الجديد، تجرأ على الرسائل النبوية السامية وزعم أنها رسائل إرهابية ولا يجب تدريسها للأطفال في المدارس"...
هكذا رد السلفيون والإخوان على أحمد عصيد، وهو مثقف معروف جدا في المغرب، غزير المقالات، يدافع في آن عن الثقافة الأمازيغية وعن القيم الحقوقية الكونية. قال عصيد في محاضرة ان التلاميذ في الثانوية المغربية يدرسون أمورا تتعارض كليا مع قيم حقوق الإنسان، وأضاف انه عندما تدرِّس لتلميذ "أسلِم تسلَم"... ففي ذلك إرهاب، لأن "القول يرتبط بسياق كان فيه الدين ينشر بالسيف وبالعنف. أما اليوم، فالمعتقد اختيار شخصي حر للأفراد، لا يمكن أن تدرِّس التلميذ رسالة تقول إما أن تُسلم وإما أنك ستموت... هذا شيء غير مشرِّف وهو موجود في المنظومة التربوية".
وهذه واقعة ضمن سلسلة من تصريحات فردية لمثقفين تلتها حملات لإسلاميين. سابقا صرح الصحافي المختار الغزيوي أنه لا يرى مانعا أن تكون لأخته علاقة جنسية حرة، وطالب بعدم تجريم علاقة جنسية بين رجل وامرأة بلغا سن الرشد ولا يربطهما عقد زواج. حينها قال عنه الشيخ النهاري انه "ديوث" (قوّاد أهله)، ودعا لقتله لأنه لا غيرة له. توبع الشيخ بتهمة التحريض على القتل. كان هذا هو المسلسل الجنسي/ الفقهي الذي قضى به المغاربة صيف 2012. وقبل الاول من أيار/مايو الجاري بيوم واحد، برأت المحكمة الشيخ النهاري من تهمة "التحريض والدعوة إلى القتل بدون إحداث مفعول".
وبالمناسبة اعتبر الشيخ السلفي محمد الفيزازي تبرئة الشيخ النَّهاري "نصرا للإسلاميين" على العلمانيين. بعدها انطلق المسلسل الواقعي عن عصيد والذي سيلهو به المغاربة في صيف 2013. وقد أصدر شيخ السلفية، الشريف الحسن الكتاني الحسني، بيانا في عدو الله الذي "تجاوز جميع الحدود في استفزاز المغاربة خاصة وامة الإسلام عامة، فما ترك مقدسا من مقدساتهم إلا وتعمد إهانته وانتهاك حرمته... ويا معشر المسلمين، ينبغي والله ألا تمر هذه الفعلة الشنعاء مرور الكرام". ولزيادة مفعول التحريض، دخل الشيخ المصري خالد عبد الله ليحرض صاحب القرار، أمير المؤمنين محمد السادس، ضد "العلماني الخبيث والوقح والمنحط المدعو عصيد". واستغرب الشيخ كيف ينام الملك بينما عصيد لم يُعاقَب بعد؟ إنها الأممية الإسلامية يدعم بعضها بعضا.
من جهته، أصدر المجلس العلمي الأعلى فتوى تجيز قتل المرتد عن الإسلام. كعادته ساند الشيخ الفيزازي الفتوى ورحب بحماية شرع الله لصيانة الأمن الروحي للمغاربة. والفيزازي والكتاني من قادة السلفية في المغرب، حكم عليهما بالسجن 30 سنة، عقب تفجيرات أيار/مايو 2003، وحصلا على عفو ملكي بعد وصول حزب العدالة والتنمية للحكومة. دافع وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية عن علماء المؤسسة الرسمية، مؤكدا أن فتوى قتل المرتد التي نشرها المجلس هي "رأي فقهي فقط". لم يهدأ الجدل، فعاد الوزير ليوضح بأن مؤسسة العلماء في المغرب تعِي أن حرية التدين مسألة قطعية في الإسلام، وهذا ما لا يوافق عليه المتشددون.
من جهته انتقد شيخ الفتاوي الجنسية، الشيخ الزمزمي، الذي أجاز للأرملة العادة السرية باستخدام الجَزَر في برنامج "أحمر بالخط العريض" التلفزيوني اللبناني، ظهور حركة "فيمن" في المغرب ونيتها الاحتجاج بتعرية الأفخاذ والصدور. واستغرب الزمزمي التسامح مع الفاحشة بعدم محاكمة الممثلة لطيفة أحرار التي ظهرت في مسرحية بملابسها الداخلية. وفي ردها قالت لطيفة "أنا مسلمة ولم أتعرَّ بالكامل بل ظهرتُ فقط بالتُّبان وحاملة الصدر، وأكدتْ أن الله وحده يعلم ما في الصدور". الصدر هنا بمعنى القلب، لا بالمعنى الذي يقلق الشيوخ. هكذا مرّ أول الشهر في صمت، رغم استمرار ارتفاع أسعار ما يؤكل ولا يُحدث مفعول الشبع.
وكي لا يبرد المسلسل الصيفي، نشرت بعض الصحف أن عصيد تعرض لإطلاق نار ولم يتم "إحداث المفعول". بل وتم تكذيب خبر إطلاق النار. مع ذلك استمر الهجوم على الرجل بمئات المقالات في عشرات المواقع الإلكترونية. لا يصدر جل المهاجمين من إيمان بالقتل بل من ضرورة التأكيد على حب الرسول وإظهار الغيرة على الإسلام، بدعوى "اقتلوا من لا غيرة له". حين ُتحصي "لايك" تجد أن كلام الشيوخ مبجل، بينما تُنْزِل التعليقات اللعنة على المثقفين. واضح اتجاه الأغلبية. المشكل أن هذا ليس موضوعا سياسيا ليكون فيه لرأي الأغلبية وزن. هذا موضوع حقوقي. الحق في الحياة لا يفوَّت ولا رأي للأغلبية فيه. فحتى من لا غيرة له يستحق الحياة.
فجأة تلبدت سماء المغرب بالغيوم وكثرت المقارنات مع تونس بسبب اغتيال شكري بلعيد هناك. وبينما تناضل الجمعيات الحقوقية لإلغاء عقوبة الإعدام من القانون الجنائي المغربي، يحث الشيوخ أتباعهم على تنفيذ الإعدام في الشارع.
من سيتصدى لهذا؟ من سينقذ المغرب؟
كيف تتعامل الأنتلجينسيا المغربية مع الأمر؟
في كل الحالات السابقة (الغزيوي وأحرار وعصيد) تضامنت الانتلجنسيا المغربية الجبانة بنصف فم. أنتلجنسيا بهت فكرها النقدي وتتجنب كل موقف ليس فيه عائد نقدي. تتضامن بكثافة في الصالونات مع ممثل مريض ومع اغتصاب طفلة. لكن حين يتعلق الأمر بصدام الإسلاميين مع القوانين الوضعية يسود الصمت.
أصوات قليلة تملك الشجاعة لتسمي الأشياء بأسمائها في جو تراجعت فيه الأفكار وهيمنت عليه الانفعالات... في ظل هذا الوضع، جاء التضامن الأقوى مع عصيد من الحركة الأمازيغية. فبفضل قاعدة أنصاره فيها، تجد مواقف عصيد صدى كبيرا. وهو ناطق فصيح باسمها، يندد بزعم الإسلاميين أن تاريخ المغرب يمتد 12 قرنا. تعتبر الحركة الأمازيغية هذا الاختصار إهانة، وتؤكد أن تاريخ المغرب يمتد آلاف السنين قبل ذلك، ويذكِّر نشطاء الحركة بالأصل الأمازيغي للقديس أغوسطين (354-430 م) ولأبوليكوس ،مؤلف أول رواية في التاريخ وهي "تحولات الجحش الذهبي".
بوضوح موقفها وعمقها الثقافي، تستطيع الحركة الأمازيغية لجم التيار الإسلامي على مستوى الخطاب وعلى مستوى الشارع أيضا. الخطير هو أن النشطاء الأعلى صوتا، المسلحين بوعي عرِقي/قبَلي، متعصّبون ويطالب بعضهم بطرد العرب من المغرب نحو السعودية!
هكذا يعيش المجتمع المغربي انقساما واضحا واصطفافا جعل التيار الحداثي في موقف دفاعي. والخشية هي أن يقوم "مجاهد منفرد"، بتكليف من نفسه "بإحداث المفعول" تحت تأثير التحريض الحالي. بعدها سيتبرأ الجميع من دم الضحية... وسيصير للمغرب نظير فرج فودة المصري وشكري بلعيد التونسي.