في أيلول/ سبتمبر 2012 انتُخب عبد الحميد شباط أمينا عاما لحزب الاستقلال المشارك في الحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية. ومنذ ذلك التاريخ والسيد شباط يصرح كل أربع وعشرين ساعة بضرورة إجراء إصلاحات وتغييرات. وقد وصف الاختلالات التي تعاني منها الحكومة، فإذا بها عدم التجانس، والتسديدات الخاطئة، والفشل في تدبير الأزمة الاقتصادية، واستفراد رئيس الوزراء بالقرار (لحزب شباط 60 مقعدا في البرلمان ولحزب رئيس الحكومة 107).
كل كرة يرسلها شباط يرد عليها رئيس الوزراء عبد الإله بنكيران، لكن نتيجة المقابلة ثابتة. بعدها بدأ السيد شباط يهدد بالانسحاب من الإتلاف، ثم صعّد، فأعلن الانسحاب في 11-05-2013. وبعد نصف ساعة تلقى شباط شوطة ساحقة: اتصل به الملك محمد السادس من فرنسا، وطلب منه الاستمرار في الحكومة حفاظا على "المصلحة العليا للبلاد". توقف تبادل الضربات فوق الحزام إلى حين عودة جلالة الملك لأرض الوطن ليحكُم في الخلاف بين مكونات الإتلاف الحكومي.
توقف اللعب أسبوعين ولم يرجع الملك. فتجددت المهاترات، وقد تحملتُها بفضل متابعة أخبار مهرجان كان ومشاهدة مباريات دوري رولان غاروس في آن. ماذا يقول المتهاترون؟
إذا سقطت الحكومة فهي برلمانية، وإذا استمرت فهي ملكية. في رده يتمسك رئيس الحكومة "بالثقة الملكية" وليس الشعبية. رد عليه شباط بكرة مبلولة من كثرة استخدامها: "الملك ملك الجميع". وهكذا دفع الجميع بالنار إلى البلاط.
يمتلك بنكيران وشباط مهارات خطابية شعبوية كبيرة. لذا فإن كل تصريح لهما ينتشر بسرعة. يُكثران من التشبيهات واللغة الموحية ويسخران بمرارة يصعب على معدي برامج الكوميديا الرمضانية مجاراتها.
حين يتراجع غبار التصريحات، تظهر بعض الحقائق: لم يقدم وزراء الاستقلال الأربعة استقالاتهم لرئيس الوزراء. بل يباشرون عملهم بشكل عادي. حينها فهم الجميع أن زعيم حزب الاستقلال انسحب شفويا وهو يُغني للحكومة "اخاصمك آه، أسيبك لا".
الملك في فرنسا وزعماء الأحزاب ينتظرون ليقوم بشوط كسر التعادل بينهم. دستوريا المغرب بلا حكومة ولا مشاكل. يردد الناس "البوليس وحدهم يعملون في هذا البلد". في الشبكة العنكبوتية تنتشر الإشاعات بسرعة، وما أن يُصدر المعنيون تكذيبا لها حتى تنتشر إشاعة أخرى، وهذا يسلي الشعب ويوهمه أنه مُطّلع على ما يجري في البلد. الإشاعة ميزان حرارة لقياس ردود الأفعال بهدف استباقها...
هذا أول اختبار حقيقي لدستور 2011 "الديموقراطي". وكان المتوقع تسليم المضرب للشعب ليلعب شوط كسر التعادل في انتخابات سابقة لأوانها. فبنكيران يريد تنظيم انتخابات جماعية وعد الملك بإجرائها في 2012. لو أجريت في 2014 يُحتمل أن يكتسحها الإسلاميون.
هل سيتحقق هذا أم لا؟
لا أحد يريد المغامرة، والجميع يريدون "الضمانات" قبل اللعب. لذا فالمقابلة السياسية في المغرب استعراضية. لا يثق المتهاترون في صناديق الاقتراع، لذا يريدون حل المشكل "فيما بينهم". يريدون اختراع الطاحونة من جديد. "يكولسون" ليمددوا لأنفسهم على الكراسي الدسمة. وهم يتوحدون ميكانيكيا ضد كل لاعب يهدد بكسر التعادل.
ما سبب العراك إذاً؟
تتعارك الأحزاب والنخب المستفيدة ليس من أجل التغيير، بل من أجل تكبير حصتها من الكعكة. يُزايد السيد شباط ليحصل على تعديل حكومي ليصير وزيرا، وليكافئ أولئك الذين أوصلوه لقيادة الحزب بمناصب وزارية... ويريد من الملك أن يوفر له التغطية للتراجع عن الشبكة.
فجأة تقدمت اخبار جيسي جي، وهي تغني بـ"الكيلوت" في قلب الرباط مساء السبت 25 أيار/مايو. ويوم الثلاثاء 28 منه، صرحت جيسي جي للإذاعة البريطانية أنها التقت الملك بعد حفلها. هكذا وجد شباط نفسه مهزوما بشوط أبيض.
الملك في الرباط؟ هذا إرسال ساحق آخر.
من حق الملك أن يستريح قليلا. لو كنتُ مكانه لفعلتُ مثله. وجوه الفنانين أوسم من السياسيين. قيل مرارا أن محمد السادس لا يحب منصبه. لا يطيق الاجتماعات. يواجه احتياجات ضخمة لما سماه عبد الله العروي في يومياته، ("خواطر الصباح، حجرة في العنق")، "شح الطبيعة وتخاذل البشر".
ما عاد الناس يشبعون. تسهل ملاحظة سوء التغذية على الوجوه التي تميل للزرقة. ومع ذلك فالزعماء يتصارعون على الكراسي، ولولا الخوف من الملك لأكل بعضهم بعضا. يعرف الشعب المغربي هذا، لذا لم يطالب أحد بخلع الملك. الشعب يؤمن بالنزعة التسوياتية.
هذا ما خلص له عبد الله ساعف بعد أن شارك في صياغة الدستور الجديد. وقد فسر ذلك بنمط تفكير المغاربة الذين يكثرون الوساطات لمنع حصول الاصطدام.
تحدث ساعف بالمفاهيم، وعلّقتُ على كلامه بقصة: الحماة ضرورية لاستمرار الزواج في كثير من الأسر المغربية. فحين يقع خلاف بين الزوجين، تحضر الحماة وتأخذ ابنتها لأسبوع أو شهر، وحين تهدأ الأجواء ترجعها لبيتنها. وهكذا يتم تمديد عمر الزواج.
في مواقع التواصل الاجتماعي، يُشبَّه سلوك شباط بالزوجة التي تهجر زوجها وتطلب الطلاق إن لم تحصل على سوار ذهبي. تتدخل الحماة لعرض تسوية، يوافق فيها الزوج على شراء السوار في السنوات القادمة، وتعود الزوجة للبيت. حاليا يحاكم ابن شباط بتهمة تعاطي الكوكايين. يتساءل المعلقون: كيف لمن لم يسيّر أسرته أن يسير حزبا ووزارة؟
ما ينطبق على الأسرة ينطبق على الدولة. وإذا كان الزواج يخضع لقانون القبيلة حتى في المدن الكبرى، فلماذا تنجو الحكومة من القاعدة نفسها؟
وظيفة الملك ايجاد التسويات. وقد كان هذا سبب وصول الأسرة العلوية للحكم في المغرب. يحكي التاريخ الرسمي في المقرر التعليمي أن قبائل متنازعة شرق المغرب (منطقة تافيلالت) اتفقت على استقدام شريف من مكة ليحكّم بينها. وهكذا جاء الحسن الداخل حفيد محمد النفس الزكية إلى المغرب في 1277 ميلادية. ومنذ ذلك التاريخ، توقف نزاع تلك القبائل بفضل حفاظ الملك على وضع التعادل بين الفرقاء... في انتظار أن ينضج الشعب ليلعب بنفسه شوط كسر التعادل.