مطبخ العُزّاب: التفكير في البطن

فارغ كفؤاد أم موسى. به عُلب سمك ولبن وبعض الأواني الرئيسية: طنجرة وإبريق وكؤوس قليلة غير متشابهة. جلها لم تُغسل منذ آخر مرة استعملت فيها... على الأرضية اللزجة فرشة دسمة وصفار بيضة وفُتات خبز وبقايا قشور خضراوات قشّرت منذ زمن تنبعث منها رائحة حموضة. هنا ما سقط لا يلتقط. وهذه محاولة للتفكير في المجتمع من بطنه، على فرض أن المعدة هي أهم عضو في جسم الإنسان، بدليل أنه الأعلى كلفة، والدليل ايضاً
2013-08-07

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك

فارغ كفؤاد أم موسى. به عُلب سمك ولبن وبعض الأواني الرئيسية: طنجرة وإبريق وكؤوس قليلة غير متشابهة. جلها لم تُغسل منذ آخر مرة استعملت فيها... على الأرضية اللزجة فرشة دسمة وصفار بيضة وفُتات خبز وبقايا قشور خضراوات قشّرت منذ زمن تنبعث منها رائحة حموضة. هنا ما سقط لا يلتقط. وهذه محاولة للتفكير في المجتمع من بطنه، على فرض أن المعدة هي أهم عضو في جسم الإنسان، بدليل أنه الأعلى كلفة، والدليل ايضاً هو ميزانية التغذية في كل البلدان.

المطبخ مكان كريه يعتبره العزاب فضاء للتدجين. لا يدخُلونه إلا مضطرين لكي لا «يضيعوا وقتهم». فإلى أين يهربون منه؟
إلى مطاعم وجبات خفيفة تتناسل كالفطر. تستجيب لتزايد الطلب على الأكل خارج المنازل. مطاعم كثيرة الفوائد. تخفض أسعارها بحيث يبدو أن شراء أكل جاهز أرخص من طبخه بالبيت. تتميز بسرعة تحضير لا تزيد عن خمس دقائق وفي أي وقت يختاره الزبون الذي يستمتع بلذة المايونيز وحلاوة الكيتشوب وقرمشة البطاطا المقلية.
يقصد الجياع هذه المطاعم في آخر لحظة. يتأملون «كتالوغ» الوجبات ويفحصون الصور الفاتحة للشهية. يطلبون أكلة. يفرحون لأنها توضع أمامهم فورا. يأكلون ولا يتركون شيئا في الصحون، وغالبا ما يُسمع رنين الملاعق وهي تطارد آخر حبة ذرة أو زيتون.
هكذا صار الأكل خارج البيت عادة لدى الكثيرين وصارت مطابخ المنازل معطلة. حتى الدعوات للغداء والعشاء تتم في المطاعم. تترسخ هذه العادة في سن معينة. ينفصل الطلبة عن أسرهم فيدمنون على مطاعم الوجبات الخفيفة. وهم يستمرون على هذا المنوال حتى ما بعد سنوات التعلم.
مع الزمن تتغير النظرة ويكتشف الجياع أن حجم الهامبرغر في صور الكتالوغ أكبر من حجمه في الصحن، يتذوقون لحم دجاج لم يغسل جيدا فبقيت فيه رائحة الخُم... يشعرون بخدعة: ما دفعوه في حبة طماطم واحدة مقطعة دوائر يكفي لشراء كيلو طماطم. تبددت حلاوة الكيتشوب وعلقت حموضته بالذاكرة.
يشتكي الجياع من أن البطاطا المقلية في المطاعم يابسة وغير لذيذة. وهم لم يشبعوا تماما. يشترون حلوى أو موزة لسد الجوع ثم يشترون وجبة أخرى بعد أقل من ثلاث ساعات. وهذا ما جعل كلفة التغذية تزيد كل يوم. وعلى كل حال فهذه شكايات المحظوظين.
أما سيئو الحظ فيعيشون هذا المشهد: قيء يقتلع الأمعاء الفارغة. ألم شديد في الجهة اليمنى للبطن. حالة ضعف شديد، منع تناول الدهنيات والحليب ومشتقاته إلى حين شفاء الأمعاء. حرص شديد على قراءة المعلومات والتوجيهات على بطاقات الأدوية: «في حالة وجود مضاعفات جانبية، أوقف تناول الدواء وأبلغ طبيبك». وعلى المدى الطويل، الخضوع لحمية صارمة. هكذا يصاب العزاب بتسمم غذائي في السنوات الأولى لانفصالهم عن أسرهم. يعلنون توبة نصوحا عن أكل المقاهي. ثم يتضح أن التوبة ظرفية، وبعد ذلك تتكيف أمعاءهم مع الميكروبات فلا يتسممون.
قلة من العزاب يطبخون رغم أن الوجبات السريعة أنهكتهم نفسيا وماليا. لدفع اللوم عنهم والتنفيس عن غضبهم يرددون «أقرب طريقة إلى قلب الرجل معدته» ويشتكون أنه صار من الصعب العثور على شابة تطبخ جيدا، وهنا سر ازدهار مطاعم الوجبات السريعة: فقد أعلنت دراسة حديثة أن 60 في المئة من المغربيات عازبات وعوانس، لذلك فالمطابخ المغربية تفتقد القوى العاملة، لأن الشابات يعتقدن أن نعومة أياديهن وصباغة أظافرهن أهم من المعدة.
بعد الغضب يأتي الحنين لطبخ الأم، يضع العزاب على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي صور قصعات كسكس وموائد عامرة... يعبرون عن شوقهم لأكل «طبيعي» خال من المواد السامة التي تُحقن بها الطماطم والبطيخ والعنب لتنضج بسرعة ويعلوها لون ناصع. هكذا صار سكان المدن يفكرون في الفلاحة. يهتمون بتهاطل الأمطار لأن الخصوبة ستجعل ما في صحونهم أفضل، يعترفون أن البادية أصل المدينة لأنها تطعمها. ينتشر حاليا إحساس بالامتنان يرد الاعتبار للفلاح. والفلاحة هي صناعة القوت كما قال ابن خلدون. ويمكن للإنسان أن يستغني عن أي شيء إلا الأكل.
بعد هذه النوستالجيا يقصد العزاب - وحتى المتزوجين وأولادهم مطاعم الوجبات السريعة لتناول الأغذية المقلية والمطهوة بسرعة شديدة في وجبات متقاربة، مع الجلوس ساعات طويلة أمام الحاسوب. النتيجة هي السمنة التي تجعل الجسد هشا أمام أمراض مزمنة علاجها مكلف. وهكذا، فإن الوقت الذي ربحه الأعزب بعدم دخول المطبخ سينفقه في التجول على المستشفيات. وحينها فقط، بعدما فات الاوان، يتعلم ضحايا الوجبات السريعة أن الطبخ في المنزل ليس تدجينا بل حرصاً على جسم سليم.
وللتأكيد على خطورة هذا الوضع، ذكرت إحصائية أن كتب «إنقاص الوزن» تحتل مرتبة متقدمة في لائحة الكتب الأكثر مبيعا في الوطن العربي. ولا تسبقها إلا كتب الطبخ. وفي المرتبة الثالثة كتب تفسير الأحلام. هذا مجتمع يطبخ ويأكل ويحلم ويتشحّم.
يبدو أن مُشتري كتب الطبخ يتوقفون عند الجانب النظري ولا يدخلون مطابخهم إلا نادرا. وهذا ما يفسر تزايد مطاعم الوجبات السريعة التي تقفل أبوابها بعد منتصف الليل. ولهذا ثمن. يقال أن من تناول عشاء خفيفا في حدود الثامنة ليلا لن يرى أحلاما سيئة، أما من تناول بيتزا دسمة ومشروبات غنية بالسكر في وقت متأخر، ونام فورا، فتداهمه الكوابيس ويحتاج الى تفسيرها في الصباح. وحين لا يجد تفسيرا كاشفا للمستقبل يسبب له «قلق طول العزوبية» آلاما في المعدة، ومع الزمن يؤدي الانشغال بالبطن إلى صعوبة رفع الرأس لرؤية الأفق.

مقالات من المغرب

المغرب... مَن أثقلَ جيوب العيد؟

يبدو المشهد مثاليّاً، ولا شيء ينغصّه. فالملابس جديدة، والوجوه هانئة، كأن الحياة بهية والجو بديع. بل تتلوّن الجلابيب أكثر كل سنة، وتبدو أغلى تكلفة وأرفع جودة. فهل صار المغاربة أغنى،...

للكاتب نفسه