سعياً منه للتماهي مع المستهلكين، زعم وزير الفلاحة المغربي أنه «فوجئَ بالزيَّادةِ في أسعَار الحليب» في نهاية آب 2013. من جهته انتقد وزير الحكامة في الحكومة يوجد شيء كهذا في المغرب الزيادة، واجتمع مع تجار الحليب الكبار وأحال «القرار الانفرادي للتجار» على مجلس المنافسة.
انتقدت التنظيمات السياسية والنقابية الزيادات. ولم تنفع الممارسات الشفوية للوزارء في التراجع عنها. وبذلك اعترفت الحكومة أنها آخر من يعلم.
ولتبريد الاحتجاجات تم اللجوء للسفسطائية. تابعوا، ومعذرة على التكرار:
قال وزير الفلاحة إن 60 في المئة من الزيادة في الحليب ستذهب للفلاحين، بل وزعم أن الزيادة تهدف أساساً لدعم الفلاحين الصغار. وأن ذلك سيكون مع الاول من آب. حتى بداية أيلول لم يزد الفلاحون الصغار في ثمن الحليب ولا علم لهم بها. يبدو أن وزيري الحكامة والفلاحة لا يتعارفان، وفي أحسن الأحوال لم يلتقيا منذ أشهر. يبدو أن التواصل بين مكونات الحكومة مستقر في الدرجة الصفر، خاصة أن هناك إشاعات تفيد بتبديل وزير الفلاحة. وقد عبر حزب الاستقلال عن خوفه من «أسلمة الفلاحة» واتهم رئيس الوزراء بأنه يريد تعيين شخص من حزبه في منصب الوزير الذي سيبدل «من اجل أن يضع حزب العدالة والتنمية يده على وزارة الفلاحة، أملا منه في استعمال ورقة العالم القروي في الانتخابات المقبلة».
هكذا تم تهريب النقاش لحسابات سياسوية، بينما يدفع الناس الثمن. وقدمت التلفزة الحكومية تحقيقات تستجوب فيها المستهلكين الذين يشتكون من ارتفاع أسعار الحليب والفلاحين الذين يشتكون من انخفاض أسعار الحليب. هكذا وُضع المستهلكون والفلاحون الصغار أي الخاسرون- وجهاً لوجه وخرجت الحكومة سالمة، وتجّار الحليب الكبار غانمين. للإشارة يبيع الفلاح الصغير حليباً كامل الدسم بثلاثة دراهم ويشتريه الناس من البقال بثمانية دراهم (أي بدولار). وبما أن إنتاج الحليب في المغرب تضاعف وانتقل من 1.2 مليار ليتر في 2002 إلى 2.6 مليار ليتر في 2012، فيربح الوسيط أكثر من الحلاّب. وهذا ما دفع بعض الفلاحين المقيمين في ضواحي المدن وقرب الطرق الرئيسية - وبهدف التخلص من استغلال الوسطاء إلى بيع حليبهم مباشرة للمستهلكين بخمسة دراهم.
بدأت حكاية الفلاحين الصغار مع الحليب في بداية ثمانينيات القرن الماضي. شُرع حينها في استيراد فصيلة بقر جيد «هولندية» تحلب أكثر من 20 ليتراً يومياً. أسس الأعيان تعاونيات لجمع الحليب في كل بوادي المغرب الخصبة المجهزة بالطرق والقريبة من المدن الكبرى. قبل ذلك كان الفلاحون يمخضون الحليب لفصله عن الزبدة ثم يمنحون اللبن للكلاب بسخاء، حتى أنها سمنت.
وبعد ذلك بدأ الفلاحون يتسابقون لينتجوا أكبر كمية من الحليب يومياً لبيعه، فجاعت الكلاب وكادت تنقرض في البوادي، فزاد اللصوص. وقد وضعت التعاونيات تسهيلات في دفع ثمن البقرة «الهولندية» المستوردة من عائدات الحليب. وفي 2013 تم استيراد 88 ألف بقرة بفضل تخفيضات ضريبية للمستوردين. حالياً في المغرب 400 ألف مؤسسة استغلالية للحليب توجد 82 في المئة منها في مناطق مسقية. يوفر قطاع الحليب 460 ألف فرصة شغل. يُجمع الحليب في 1070 مركزاً ويحصل الفلاحون على ثمن حليبهم كل خمسة عشر يوما. وهو ما وفر لهم سيولة نقدية غير مسبوقة. وهكذا حسّن الفلاحون الصغار نمط عيشهم وجدد الأعيان وجاهتهم.
بفضل فوْرة إنتاج الحليب، ظهرت علامات الشبع وشعر الفلاحون الصغار بالمساواة مع الكبار... وصار بإمكان زوجة الفلاح الصغير - التي غادرت المطبخ إلى الحظيرة لتحلب - أن تشتري ذهباً وأن تقصد الطبيب، وأن تطبخ بالغاز بدل الفحم، وأن تستخدم طنجرة الضغط بدل القدر، وأن تتغطى ببطانيات ناعمة ملونة (اسمها هنا «مازافيل») بدل الصوف الذي يسبب «الحساسية».
أرسل الفلاح الصغير أولاده للمدرسة ثم إلى المدينة لمتابعة التعلم، لكن كثيرين منهم لم يتمموا تعليمهم لأن معارفهم ضعيفة منذ البداية. حين رجعوا للبادية، كانت المدرسة قد صنعت منهم فلاحين كسالى... صاروا ينفرون من حلب البقر لأن قطرات الحليب تصير حامضة حين تصيب الملابس.
بالمقابل ازداد الأغنياء غنى. أسس الفلاحون الكبار، وهم أيضا أعيان قبائلهم، «تعاونيات»، ظاهرها جمعيات غير ربحية وآليات عملها تجارية بحتة. وهي مربحة جداً لكنها لا تدفع الضرائب. توفرت لهذا الفلاح أموال فصار يركب جراراً بدل بغلة. يجمع بين تسيير جمعية الحليب وقيادة فرقة الفروسية التابعة للقبيلة. لهذا قال السيوسيولوجي الكبير بول باسكون إن الفلاح المغربي يعيش عصوراً متباينة في لحظة واحدة. في المناسبات الاجتماعية يركب الفلاح الكبير الفرس وينفق بسخاء على الولائم. في مواسم الانتخابات تعمل جمعيات الحليب كجهاز استقطاب سياسي. في كثير من المناطق تدهورت قيم الفروسية، لأن «الهولندية» أفضل من الفرس. فهي تعطي الحليب والربح قبل الوجاهة.
هكذا شرعت آلية قيم السوق، وهي تيار تحديث جارف، في تدمير الحواجز الاجتماعية والثقافية. لكنها بالضرورة لا تضع لها بديلا. في السوق الأسبوعي قلَّ عدد الحمير وكثرت السيارات. تقوّت الفردانية. بدأت أراضي الجماعات تتناقص وستزول قريباً. صار كل فلاح يُسيج أرضه ويمنع غيره، ليس فقط من رعي بقره فيها بل من المرور بها. وهذا ما صعب مأمورية الفلاحين الصغار.
والنتيجة هي أن الملكيات الصغيرة تعرضت للإفلاس بسبب قلة الموارد أو بسبب تقسيم الإرث على أبناء كثر. وهذا ما يمهد الطريق لنشأة عمالة مأجورة ريفية شابة غاضبة، ترفض هيمنة الأعيان وتنكر أن تكون الزراعة هي المصدر الأساسي للثروة.
مواضيع
"أعيان الحليب" في المغرب
مقالات من المغرب
جفافٌ يَلِدُ فيضاناتٍ في المغربِ القَصِيِّ
الضرر كان فادحاً، ومسَّ في الأساس البنى التحتية لطرق ومدن وقرى جنوب شرق المغرب، التي تم بناؤها لتحمل مجموع سيول مطرية معتادة. وشملت الخسائر انهيار حوالي 56 مسكناً بشكل جزئي...
الحرّية للصحافيين والسّجن للصحافة
الصّحافيون الثلاثة الأشهر الذين أُفرج عنهم، أُدخلوا السّجن بتهم جنسية، لا بتهم متعلقة بحرّية الصّحافة أو الرأي، كما هو الواقع. وهي استراتيجية مباشِرة إلى درجة تثير السخرية، لكنها أيضاً لئيمة...
الجفاف والبطيخ والأفوكادو وعصابة لصوص الماء في المغرب
ثلثي المنطقة العربية على رأس الدّول الأكثر عرضة للإجهاد المائي في العالم. فمن هم لصوص الماء في المغرب؟ ومن المذنب؟ ومن الضّحية في زمن العطش؟ يؤدي نقص المياه إلى تراجع...
للكاتب نفسه
تهريب بالمؤنث بين المنبع والمصبات التجارية
تفحّص لمثال "البغلات"، وهن النساء المهرِّبات من معبر "سبتة" المدينة المغربية المحتلة من إسبانيا الى كل الاسواق الشعبية في المغرب..
الخطاطة السردية لتغيير قيادة "حزب العدالة والتنمية" في المغرب
القصر يستعيد صدارته ونفوذ محمد السادس بلغ أوجه. هناك موجة ارتداد سياسي واجتماعي، والأولوية للتمسك بالوضع القائم في المغرب، لأنه أفضل مما يجري في الجوار..
المنظومة المعرفية المهيمنة: الحافظ يهزم الفاهم
المدارس المغربية مصبوغة جيداً ومجهزة. لكن، ينقصها شيء ما.. النظام التعليمي مبني على الحفظ والاستظهار وهو لا يتيح الانتقال من التلمذة إلى البحث، من اجترار اليقين إلى الإنتاج..