تخرج أمينة في السادسة والنصف صباحا من البيت، وكل أملها أن تصادف الحافلة، وألا تكون قد مرت. تعرف أن السلطة في المغرب خصصت لكل حي حافلتين. وليس للحافلة وقت محدد، والصدفة وحدها تعمل هنا. حينها تتمكن أمينة من قطع عشر كيلومترات في نصف ساعة وتصل لعملها في الوقت. وهي تقيس المسافة بالدقائق وليس بالكيلومترات. لأنه يستحيل افتراض أن الحافلة التي تسير بسرعة ستين كيلومتراً في الساعة ستقطع المسافة في عشر دقائق. هذا صحيح على الورق فقط. والذين يحسبون بهذه الطريقة الخاطئة يصلون إلى عملهم متأخرين، وهذا ما يحصل للطلبة خاصة، لأن تأخرهم عن مدرجات الجامعة لا تترتب عليه خسارة مالية فورية.
تشعر أمينة بالسعادة حين تصل مقر عملها مبكرا وقد احتفظت بكل طزاجة صباحها. يكون مردودها في المكتب أحسن. لكن حين تتعطل الصدفة، تقف أمينة تنتظر الحافلة. تتضرع إلى الله عز وجل أن يجلب الحافلة. ليست «السياقة» من أسماء الله الحسنى، لكن أمينه تدعوه: يا رب هات الحافلة.
حين يتأخر الله في جلب الحافلة، تطلب منه أمينة أن يمنحها الصبر لتستمر واقفة رغم قلقها من بروز العروق في سيقانها. وأثناء ذلك يكثر المنتظرون ويزداد الزحام. كثيرون ينظرون إلى الساعة في هواتفهم النقالة، مما يدل أن الساعات التي يضعونها في معاصمهم معطلة. وهي للزينة أكثر مما هي لضبط الوقت.
حين تصل الحافلة يبدأ التسابق على المقاعد. في الأيام السعيدة تعثر أمينة على مقعد. تضمن الحصانة لجسدها. في الصباحات الملعونة، تمضي أمينة واقفة، تمسك في القطعة الجلدية المتدلية من سقف الحافلة. وحين يقود السائق بسرعة ثم يقف فجأة، تتعرض حصانة جسد الشابة للانتهاك، أحياناً بشكل عفوي، وغالبا بشكل متعمد من كهل يقف خلفها بصلابة ليلامس الأجزاء البارزة منها.
تصل أمينة لموقف الحافلات في ساحة «الباطوار» (وهو تحريف بالعربية لاسم «المسلخ» بالفرنسية) في قلب مدينة أغادير، تنزل وتجري لمقر العمل. كانت تلك أياما ملعونة، لكنها صارت الآن حُلما، والسبب أن شركة النقل، وبهدف زيادة أرباحها، قامت بتقطيع الخط، وصار لزاما على أمينة ركوب حافلتين للوصول لمقر عملها منهكة. في خطوط أخرى، بدل حافلة واحدة تربط بين نقطتين وضعت الشركة ثلاث حافلات لقطع المسافة نفسها وليدفع الراكب ثلاث مرات. ويرجع ذلك لخصخصة النقل العمومي. سابقا كانت هناك شركة حافلات عمومية، كان الركوب فيها مجانيا من وإلى الأحياء الشعبية المكتظة التي ينظر إليها السياسيون كخزان انتخابي. أفلست تلك الشركات بسبب سوء التدبير وضعف المراقبة، وحين جاءت الشركات الخاصة انتهت المجانية. من لا يدفع لن يركب.
تعرفتُ على أمينة في الأسبوع الذي تعطلت فيه سيارتي. حينها صرت من رواد ساحة «الباطوار». هذا المكان الذي كان في عهد الاستعمار يسمى «المجزرة الإسلامية» صار الآن محطة نقل تتجمع فيها كل الخطوط. مئات السيارات والحافـلات وآلاف الناس ينزلون ويركبون. آلاف ســيارات الأجرة، الصغيرة حمراء، والكبيرة بيـضاء، يلقبها الركاب «بالبقرة المجنونة».
لماذا؟
كل سيارات الأجرة الكبيرة في البلاد يزيد عمرها عن 20 سنة. يحتل المغرب المرتبة السادسة عالميا في عدد قتلى حوادث السير. والقتلى في المدن أكبر من خارج المدن، وهذا استثناء مغربي آخر. عادة تفسر الحوادث بالأخطاء البشرية أو الحالة الميكانيكية أو تدهور حال الطرق. لكن الموت واحد. فالسيارة سلاح خطر ويُنصح كل من يركبها بالطهارة وبنطق الشهادة.
تنشط البقرة المجنونة في الأحياء ذات الكثافة السكانية العالية. هنا يستقر الموظفون والعمال الفقراء الذين يخجلون من ذكر اسم الأحياء التي يسكنونها. فالحي وسيلة حاسمة في التصنيف الطبقي. يلجأ أولئك الأجراء للضواحي البعيدة حيث يمكنهم كراء أو شراء منازل بأسعار أقل. ومقابل هذا الربح يتحملون بهدلة نفسية وبدنية يوميا، لهذا يفرحون بكل يوم عطلة أو إضراب. حينها يمكثون في بيوتهم، يحلمون بشراء سيارة خاصة، لكن ترعبهم مصاريف صيانتها.
عندما تنتظر أمينة الحافلة وحيدة، تنظر للأرض كي لا تلتقي نظراتها بأي متحرش محتمل يفسر التقاء العيون كترحيب بمشروعه. تشتكي من السرقة و«الظاهرة المرضية للتحرشات الجنسية التي تعاني منها الفتيات في الحافلة وأمام أعين الركاب دون أن يحركوا ساكنا ودون أن ترد المتحرَش بها بكلمة خوفا من اعتداءات أخطر».
روت عن كابوس «رجل في الأربعينيات من عمره يبدو عليه الوقار، كان جالسا حينما صعدت إلى الحافلة التي كانت شبه فارغة. امتلأت الحافلة فنهض الرجل وبدأ يتحرش بالنساء واحدة تلو الأخرى، ويختار الشابات السمينات يلتصق بهن ويقوم بشيء مقزز وأمام الملأ... والركاب يشاهدون هذا وكأنهم أمام فيلم. وكلما خجلت المتحرَش بها وتحركت يلحق بها أينما حلت حتى يفرغ من شهوته الحيوانية».
تقول أمينة أن التحرش في الحافلات نادر في الصباح ويكثر في المساء. في التاكسي يصير التحرش أنيقا، يعترف لها الجالس بجانبها أنه أعجب بها «من النظرة الأولى»، ويقترح عليها الحديث عن ذلك في مقهى قريب. لا تعتبر أمينة مثل هؤلاء أزواجا محتملين لأنهم يستبدلون النساء كما يتنقلون بين التاكسيات...
تتمنى أمينة أن تتزوج لتتوقف عن ذلك العمل الصغير الذي يُكرهها على ركوب الحافلات والتاكسيات يوميا. في انتظار تحقق حلمها، تستمر بالشعور بالغثيان كلما ركبت الحافلة. وهي تحمد الله أنها لا تتجاوز الغثيان إلى القيء.
لم أعد ألتقيها. بفضلها تعرفت على جحيم النقل العمومي، وبذلك تغيرت نظرتي لسيارتي التي أفقرتني تكاليف صيانتها. صرت أحبها حبا جما. فهي تحميني من الزمن السائب في النقل العمومي. تحميني من النشل، فحين أركب وأغلق الباب أستفيد من بأس الحديد وأسعد بحصانتي البدنية والنفسية. هكذا يقلص استخدام السيارة الخصوصية صلة الفرد بالواقع، ويتوقف عن إدراك مخاطر الشارع.