في ساحة «جامع الفْنا» وسط مراكش، وقف عشرات آلاف المتفرجين أمام المنصة المشادة للاحتفال بنجوم السينما الهندية الذين جاؤوا للمغرب بمناسبة المهرجان الدولي للفيلم، في دورة 2012. كانت الأجواء باردة جداً، بل وممطرة أحيانا. ومع ذلك وقف عشاق الأفلام الهندية لساعات بصبر وحماس. ما الذي يجعلهم يتحملون كل هذه المشقة؟
قبيل الإجابة، ضبطتُ نفسي متلبسا بتراجع إعجابي بالسينما الهندية مع تقدمي في السن، بينما كنت أنوي الكتابة عنها كما شاهدتها أول مرة، حين بكيت أثناء متابعة فيلم «دوستي» (صداقة). أريد أن أكون وفيا لمرحلة مراهقتي. لذا، وقبل توجهي لمتابعة الاحتفاء بالسينما الهندية، وضعت وعيي النقدي في الخزانة الحديدية في الغرفة الفاخرة بفندق يعقوب المنصور الذهبي. بذلك تخلصت من وعيي الشقي الذي اكتسبته بسبب مطالعتي لأساتذة الشك مثل ماركس ونيتشه وفرويد. ما أن أودعته الخزانة وأغلقت عليه برقم سري، حتى استعدتُ فرحي الرومانسي كما في الأفلام الهندية، وصار بإمكاني أن أرى بمنظارعشاق شاروخان... وأؤمن بأن المشاهير هم آلهة العصر.
وقفت قرب المنصة لفحص صفات النجم ودوره حين يظهر لعشرات آلاف معجبيه، الذين قدموا من مدن بعيدة ومن أحياء متوسطة وفقيرة، ووقفوا ينتظرون في جو ممطر لا تتجاوز حرارته الست درجات. ينتظرون أن يهل عليهم نجمهم. يتبادلون التعليقات عن أفلامه. كثيرون يربطون الدخول لقاعة السينما بأول موعد غرامي لهم. ومنذ ذلك الحين تماهى الشاب مع شاروخان وتماهت الشابة مع البطلة. ومع هكذا مزاج، فمن السهل أن ترتفع صرخات الإعجاب حين ظهر الممثل الكبير على المنصة.
يرونه محبوبا كريما متواضعا... تنسب للنجم صفات تقرِّبه من الكمال. وهو قدوة مربحة، فعندما يشتهر شخص، يصير نجما يتوفر له فائض قوة يمكّنه من التأثير. حينها تتقدم الشركات لتشتري تأثيره. تعمد الهيئات السياسية لاستخدام النجوم في دعايتها الانتخابية لأنهم يتمتعون بما يسميه الناس «القبول». وقد شكلت توبة فضل شاكر إنجازا إعلاميا للسلفيين. حتى المنظمات الدولية توظف سحر النجوم، كثيرون لم يعرفوا موقع اللاجئين السوريين إلا بعد أن زارتهم أنجيلا جولي وبكت.
هكذا صارت صناعة النجوم مدرة للربح، ويحظى لبنان بالسبَق في هذا المجال رغم توقف أنجح برنامج وهو «هزي يا نواعم خصرك الحرير». وقد اخترع التلفزيون برامج المسابقات بكثافة وهي تحظى بدعم قوي من الشركات. عادة يَصنعُ العمل الطويل الشهرة: غنت أم كلثوم سنوات طويلة قبل أن تصير مشهورة، وكتب نجيب محفوظ سنوات أطول. الآن تُسرّع المسابقات صناعة النجوم. مسابقات الاستعراض والغناء هي الأكثر فعالية. عيب هذه الشهرة أن نجومها يلمعون بسرعة وينطفئون بسرعة. هكذا ظهر النجم الذي تفرزه المسابقات المتتابعة والذي يستخدم لمرة (لو صح التعبير، أي «jetable» أو «disposable»). وهو يكاد يجن حين تتوقف وسائل الإعلام عن متابعته.
وهذا التجديد مفيد للتلفزيون، وقد أدرك معدو الخطوط التحريرية في القنوات الفضائية أن الناس تعبوا من أخبار الحروب، وهم يحتاجون للطراوة، للحب والرقة. وهذا ما يجدونه لدى النجوم الحساسين. ودخلت شركات الاتصال على الخط تطرح صور الفنانين مرفقة بأسئلة غبية مثل «مَن صاحب الصورة؟»، وتتم الإجابة عن تلك الأسئلة برسائل نصية ثمنها مضاعف. هكذا يخضع النجم لقانون السوق ويصير معجبوه زبائن يدفعون لإشباع شوقهم. وكلما دخل النجم السوق وزادت أرباحه، فسِّر ذلك بأنه متفوق وموهوب يستحق «البريستيج». صارت الشهرة تطابق الموهبة... بمعنى أن كل مغمور لا موهبة له.
غير أن لهذه الشهرة ثمنا، فالنجم نجح وصار قدوة بعد تحمله لمصاعب الطريق الذي قاد للشهرة. وهي مصاعب تطلبت تدمير الصحة والحياة الشخصية. فللحفاظ على قوامها، تؤخر النجمة الإنجاب لكي لا يتدلى بطنها. وتجري عشرات عمليات التجميل ليتناسب أنفها مع معيار الجمال السائد. ويقال أن هيفاء تطلقت بسبب «نجوميتها» داخل البيت... وبسبب هوس النجومية في العصور الحديثة، صارت ولادة النجم عسيرة. فبما أن الأماكن على المنصة قليلة، فالمنافسة شرسة للحصول على الموقع الأول. ليس في السماء قمران، وكذلك ليس في عرض البطولة إلا دور واحد، سيحصل عليه الأفضل، الذي يدفع أقصى ما يستطيع من لحمه وروحه. وعليه ليحتفظ بالنجومية أن يغذي المروية (Storytelling) خاصته بشكل دوري: فكل شهر خبر جديد عن حبه وزواجه وإشاعة طلاقه ثم عن طلاقه الفعلي وتفاصيل أخرى عن حياته بأفراحها وأتراحها. الشهرة هي أن تمنع الناس من نسيانك، وتوفير ذلك ليس سهلا.
يدرك عشاق النجم أنه ضحى ليصبح شهيرا، وهم يتعاطفون معه من اجل التضحية التي قدمها من أجلهم. لقد فعل ما لا يستطيعون، فهو معروف وهم نكرات، هم عاديون وهو متميز. هم ناقصون بينما النجم كامل. هم عابرون بينما هو دائم، فمن يشتهر يدوم، يخلد. والشهرة هي المرحلة العليا للسعادة والنجاح.
من يريد أن يكون عاديا ونكرة اليوم؟ لا أحد. وكل من يحصل على صورة أو توقيع من نجمه المفضل يكون قد نال من قبس النجومية، وعبر من العادي إلى الاستثنائي.
لتحقيق ذلك، يتزاحم المعجبون للمس يد شاروخان. يد النجم المطلق الذي دافع عن الإسلام في فيلم «إسمي خان»، وهو ناجح نظرا لمميزات الوصفة التي تقدمها الأفلام الهندية، رومانسية متخففة من لعنة أساتذة الشك، يتماهى فيها المتفرج مع بطل الفيلم العاشق المنحدر من وسط فقير، ومع ذلك يحصل على أجمل فتاة. وصفة تحقق العدل في آخر الفيلم. فالأشرار يُهزمون. وهذا يرضي تعطش المتفرج للعدالة في واقع ظالم... يبدو أن وعيي النقدي هرب من خزانة الفندق. وقبل أن يفسد بهجتي، فإليكم هذا التمرين في التفاهم والحب في الموعد الغرامي الأول لأي شابين: يمثِّل الموقف النقدي من فيلم معين، إشارة لمستقبل علاقة عاشقين يضربان أول موعد لهما في السينما. فإن اتفقا في موقفهما من الفيلم، وفي تفسير أحداثه، فمستقبل العلاقة العاطفية سيكون زاهرا!
مواضيع
المـتــفـــــرّج أمـــــــام نجــمــــــــه المـفــضّــــــل

مقالات من المغرب
متحف الحلي: تاريخ الجمال والوجاهة في المغرب
لعل أصعب لحظة في زيارة متحف الحلي، هي الاضطرار إلى مغادرته! فهذه التحف تثبت أن الفن في المنطقة، على الرغم من ندرة منحوتاتٍ تُجسِّد الآلهة أو الملوك، وعدم شيوع رسم...
انفلات التضخم والغلاء في المغرب..
أجمعت المسيرات الاحتجاجية على أن الحكومة الحالية التي يرأسها رجل الأعمال الأغنى بالبلاد بعد الملك، تغض الطرف عن لوبيات الاحتكار، وتتلكأ في معالجة ارتفاع أسعار المحروقات، خاصة وأن حلول شهر...
جدل امتحان المحاماة في المغرب: اتهامات بتكريس الطبقية والمحاباة
أوائل كانون الثاني/ يناير من هذا العام الجديد 2023، أفرج عن نتائج اختبارات المحامين، ونشرت لوائح الناجحين، وهي تضم أسماء نجل وزير العدل وأقارب له، وأبناء لمحامين ومسؤولين في وزارة...
للكاتب نفسه
تهريب بالمؤنث بين المنبع والمصبات التجارية
تفحّص لمثال "البغلات"، وهن النساء المهرِّبات من معبر "سبتة" المدينة المغربية المحتلة من إسبانيا الى كل الاسواق الشعبية في المغرب..
الخطاطة السردية لتغيير قيادة "حزب العدالة والتنمية" في المغرب
القصر يستعيد صدارته ونفوذ محمد السادس بلغ أوجه. هناك موجة ارتداد سياسي واجتماعي، والأولوية للتمسك بالوضع القائم في المغرب، لأنه أفضل مما يجري في الجوار..
المنظومة المعرفية المهيمنة: الحافظ يهزم الفاهم
المدارس المغربية مصبوغة جيداً ومجهزة. لكن، ينقصها شيء ما.. النظام التعليمي مبني على الحفظ والاستظهار وهو لا يتيح الانتقال من التلمذة إلى البحث، من اجترار اليقين إلى الإنتاج..