أقدمت امرأة في الأربعين من عمرها على إضرام النار في جسدها يوم منتصف الشهر الجاري، بوسط مدينة أغادير. حين وصلتُ للمكان، كان الإسعاف قد نقل الضحية للمستشفى وكان المتفرجون قد تفرقوا.
جلستُ في أقرب مقهى بائس استرق السمع. للمرأة طفل في الثالثة، وكانت في نزاع دائم مع جيرانها. جيران داخل نفس المنزل، أي أن كل أسرة تسكن في غرفة. هنا يعرف الفرد أكثر مما ينبغي عن جيرانه. وقد وصل النزاع للمحكمة. بعد ثلاثة أيام من ذلك، صبَّت المرأة كمية من البنزين على ملابسها وأشعلت النار ثم جرت نحو مركز للشرطة. وقع ذلك بعد صلاة الجمعة...
بعدها نسي الرجال في المقهى الحريق وانتقلوا للدردشة عن أمور أخرى. لم تقع ثورة في المدينة كما حصل في سيدي بوزيد جنوب تونس.
حين نشر الخبر في الصحف، كان العنوان هو "أم عازبة تضرم النار في جسدها". "أم عزباء"تعبير فرنسي. ورغم الخلل في الترجمة للعربية، تستخدم وسائل الإعلام التعبير "المغسول" لتجنب الكلمة المستخدمة في اللهجة المغربية، "هجّالة"، وهو لفظ ينطبق على الأرملة والمطلقة وكل امرأة فقدت بكارتها وغير متزوجة. التسمية المترجمة لطيفة جدا، وهي تجعل القارئ يفكر في رشيدة داتي، الوزيرة السابقة الفرنسية من أصل مغربي التي أنجبت طفلة وهي في الأربعين وتقوم حاليا بحملة إعلامية وقضائية لجعل الأب الملياردير يعترف بأبوته للطفلة "زهرة".
سجلتُ هذا ثم لم أتابع الكتابة في الموضوع.وحين انتشر خبر موت المرأة تجدد اهتمامي به.زرت المكان من جديد لشحذ المخيلة السوسيولوجية، سألت الشرطي الذي يحرس المركز، فنفى علمه بالموضوع وقد لاحظ الدهشة التي علتْ وجهي.
تحدثتُ لبعض أصحاب الدكاكين المجاورة للمكان. بعضهم زعم أنه لم يسمع بما جرى لأنه كان في المسجد. نجار شاب غاضب قال أن المرأة عصت الله، ولامني: لماذا تسأل عن أشياء إن تبد لك تسوؤك؟
قلت له أن هذه هي مهنة الصحافي.
ينكر المستجوَبون معرفتهم وصلتهم بالمحروقة،لا يسمونها المرحومة، يشعرون بأن ما فعلته "الهجّالة" هو مصدر عار لحيّهم. والعار يحْسنُ السكوت عليه. وهذا لا يناسب مهنتي التي تقارب الحدث الاجتماعي بغض النظر عن الموقف الأخلاقي منه. المهم أن المتعاطفين مع المحترقة نادرون، وستُنسى بسرعة. وهي خامس حالة احتراق في المغرب.لم تطالب بإسقاط النظام بل بالتسامح مع حقها في الأمومة. وقد ماتت علنا بينما كثيرات غيْرها متن أثناءالإجهاض أو الوضع سرا لكي لا ينكشف أمرهن. فالإدارة في مستشفيات الولادة تسال عن والد الرضيع لتقييده في ملفاتها.
في معاجم اللغة العربية هجلت المرأة بعينها أي "أدارتها وغمزت بها الرجل".و"هجّالة" بصيغة المبالغة أي غمازة لاستجلاب الرجال إليها. واللغة هنا تُحمِّل مسؤولية الغواية للمرأة. في الفرنسية عزباء هي غير متزوجة، بينما في المجتمع المغربي العزباء هي التي لم تفقد بكارتها. لقد استشهد البوعزيزي أعزبا فعلا، بينما المرأة المحترقة تركت يتامى سيصنفهم المجتمع بأنهم "أولاد الحرام"، وسيحملهم وزر ما فعلت أمهم.أظن أن الزواج يحمي من الانتحار والجنون.
كيف تصبح فتاة أما عازبة؟
توجد ثلاثة أجوبة، إما علاقة غرامية حقيقية تحت شعار "الحب الأول" يخيم عليها وعد بالزواج، ومع الزمن تثمر اللحظات الحميمة جنينا. وعندما يكون الرجل شجاعا يفي بوعده ويتحمل مسؤوليته. وعندما يكون جبانا يفرّ ويترك الفتاة لتواجه الأسرة والمجتمع. 32 في المئة من الأمهات العازبات لا يزيد عمرهن على 20 سنة.
في الحالة الثانية لا يكون هناك لا وعد ولا التزام عاطفي، لكن يقع سهو في استخدام حبوب منع الحمل. 20 في المئة من الأمهات العازبات يزيد سنهن عن 26 سنة.
في الحالة الثالثة، تطول العزوبة أكثر مما ينبغي، يقترب سن اليأس، ويبدأ الخوف من الشيخوخة. حينها يجري الحمل إراديا بغض النظر عن موقف المجتمع. وأنا أتفهم هذه الحاجة للأمومة. 16 في المئة من الأمهات العازبات يزيد عمرهن على 30 سنة. وهذه حالة ستتزايد في السنوات القادمة بسبب عزوبة نصف المغاربة الراشدين.
على مواقع التواصل الاجتماعي، لم يكن احتراق انسان هو المهم، بل كلمة "عازبة" التي تثير استيهامات. وشرحها المعلقون بأنها "زانية ولدت لقيطاً"، وقد حملوا المسؤولية للمسلسلات المدبلجة بزعم أنها تشجع تفشي العلاقات الإباحية. ومن سخرية الأحداث أن الممثلة التركية لميس جاءت للمغرب لتتضامن مع الأمهات العازبات. استضافتها جمعية تديرها المناضلة النسائية السيدة عائشة الشنا.
كان للسيدة الشنا السبق في المجال، وقد حصلت على "جائزة أوبيس" 2009، من منظمة أمريكية. ويبلغ قدر الجائزة مليون دولار. وفي نهاية 2012 اختارت إحدى المجلات السيدة الشنا شخصية السنة.
لم يكن الطريق معبدا أمام دعم الأمهات العازبات، وقد اتُّهمت السيدة الشنامرارا بتشجيع الزنا وشرعنته بينما هي تنقذ الرّضع. وفي آخر تصريح لها أوضحت لخصومها أن "مريم العذراء هي المرأة الوحيدة التي أنجبت المسيح عن طريق معجزة،" والباقي لا. وشرحت لهم أن "المجتمع الذي يرمي أبناءه في حاويات الزبالة، مجتمع غير سليم".
كل يوم يولد في المغرب 153 طفلا خارج مؤسسة الزواج. ويتم التخلي عن 24 طفلا يوميا بشكل غير قانوني بسبب الخوف من العار. في المغرب لا يسمح القانون بجرائم الشرف، كل قتل عمد للأخت تزيد فيه العقوبة عن عشرين سنة سجنا. لا تميز العدالة الرجال والنساء. وهذا خبر طيب.
تنشر الصحف أخبارا عن "العثور على رضيع متخلى عنه"، مرة ميت ومرة حيّ، "ملفوف في فوطة"، وقد عثر على واحد في مرحاض بمسجد في مدينة تطوان شمال المغرب.
ما مصير هؤلاء الأطفال؟
توجد بنية استقبال لا بأس بها تتمثل في جمعيات تستضيف الأمهات العازبات. كما يوجد طلب إسباني كبير على تبني هؤلاء الرضع.وكمساهمة منه في حل المشكلة، وقف وزير العدل المغربي في البرلمان ليعلن رفض تهجير الرضع. وقد برر الوزير الإسلامي قراراه بصعوبة التأكد من الصّلاحية الأخلاقية للمتبنين. وأكد حرصه على ألا يغير الأجانب عقيدة الرضع. ليس مهما حاجة الرّضع للحفاظات والحليب. المهم ألا يُنصّروا فيحتفلوا بميلاد المسيح!