قبل القصة، هاكم الخلاصة: يقول الخطاب النسوي ان عمل المرأة يجعلها موضوعياً متساوية في الحقوق مع الرجال، بما في ذلك حقها في جسدها. حريتها في التصرف به. ولكن ذلك لا يستقيم إذا ما قبل بمسلك يعتبر أن حريتها الجنسية تسمى اغتصابا حينما ينكشف أمر ممارستها لها. هذا «التباس» تأسيسي يضر باستقامة النضال النسوي التحرري، ويصب الماء في طاحونة من يعتدّون بأن «كيدهن عظيم»، ويتخذون ذلك ذريعة لكبح جماحهن وابقائهن تحت الوصاية والضبط باعتبارهن متلاعبات، يتوسلن محاولات منحرفة، أو متشاطرة، أو ابتزازية الخ... للوصول الى مبتغى غالباً ما هو «تقليدي»، كإجبار الشريك في الفعل الجنسي على الزواج، أو على دفع تعويض. وهن في هذا أسوأ من الجواري، حيث أولئك مغلوبات على أمرهن، ولم يخترن وضعية العبودية، بل طورت الذكيات من بينهن وسائل للالتفاف على شرطهن ذاك، بالمكائد أو بـ«الشهرزاديات» أو بالثقافة التي كانت تجعل صاحباتها ذوات منزلة ولا يستغنى عنهن... وعلى كل حال، تلك المسلكيات الملتبسة ما زالت شائعة جداً، والغريب أن الحركات النسوية تحرج حيال تعريفها، بل تأخذها العزة بالإثم.
وأهمية تلك المسلكيات الملتبسة أنها، خصوصاً، علامة على عدم نضوج الوعي بمستلزمات التحرر، وعدم الانحياز إليه فعلاً. فلا يمكن نيل مميزات التحرر ومميزات التبعية في آن... لأن لهذه الاخيرة «مزايا» (أقلها التخلص من ضرورة توفير النساء لاستقلالهن المادي، وأن يكون الانفاق على عاتق الرجل)، كما أن للوضعية الاولى أعباء، (وهي غالباً تتمثل في تحمل النساء لضريبة العمل المنزلي الذي ما زال يقع على كاهلهن بأغلبيته، والعمل في الخارج في آن. يعني ممارسة وظيفتين مرهقتين). وبالمقابل تقع العديد من النساء، (خصوصاً إذا ما خرجن من الدروب الآمنة للمسلك الاجتماعي المتعارف عليه والمراقب جيداً)، ضحايا الاحتيال عليهن، أي التلاعب بعواطفهن واستغلال سذاجتهن أحيانا أو خوفهن، أو حتى ايهامهن بالاستعداد للاستجابة لطمعهن بمكاسب. وهذا يمكن إدانته حتى حقوقيا، وإن كانت القاعدة تقول ان القانون لا يحمي المغفلين. لكن ضبط توصيف الفعل جزء من المعركة، فلا يمكن تحقيق تحرر النساء من دون تسليحهن بتربية مغايرة لتلك التي تُلَقَّن لهن منذ الولادة، والقائمة على دفعهن الى «التحايل» للوصول الى مبتغاهن، أياً يكن.
أما مجاراة هذا «الالتباس» من قبل الحركات النسوية، فيجعلها متواطئة مع ما لا بد من تسميته بنقيض التحرر، ومع ما يكاد يكون بناء لوضعية كاذبة، أو مزورة. وهو يضعف صدقية تلك الحركات وتأثيرها. ويضعف القدرة على خوضها معارك ناجحة حين يكون هناك فعلاً اعتداء واغتصاب، إذ تضيع الحدود والتعريفات.
القصة الآن: في المغرب، منذ عامين، اتهمتْ موظفة برلمانيا باغتصابها. استخدم البرلماني نفوذه فأغلق الملف القضائي. لجأت الضحية للصحافة وقادت حملة إعلامية ناجحة ترتَّب عنها فتح الملف من جديد، فوصف الفعل بأنه جريمة اغتصاب نتج عنها فض بكارة وحمل. طالبت الضحية بنسبة الطفل لوالده وبالحصول على النفقة. حكمت المحكمة على المتهم بسنـة حبسـا نافذا. لم يعتقل، وظهر على التلفــزيون وهو في البرلمان يناقــش، ولو لمرة واحدة في عمره، ليثبت للأعداء أن يد القضاء لم تطله. وقد استأنف الحكم. وبعد فحص الوقائع من جديد، قررت المحكمة أن جريمة الاغتصاب غير قائمة.
احتجت الضحية بشدة وفورا، أهانت القاضي فأمر بسجنها ثلاثة أيام. شكل الحكم صدمة للحركة النسوية المغربية التي لم تستيقظ بعد من فاجعة انتحار أمينة الفيلالي، القاصر التي تم تزويجها بمغتصبها.
وهكذا نددت الحركة بعدم عدالة الحكم، وبالفساد المستشري، وعبرت عن تضامنها اللامشروط مع الضحية. وصدرت بيانات أشبه ببيانات القمم العربية حول اغتصاب فلسطين.
وللحفاظ على الضغط، جرت حملات جمعوية وإعلامية تطالب بحصول الضحية على حقوقها، وصدرت تنديدات بتساهل وزير العدل مع الاغتصاب... فبما أن الوزير إسلامي، فلا بد من أنه ضد حقوق النساء.
ولما يئست الضحية من إحقاق الحق، سجلت مقابلة فيديو مع جريدة إلكترونية لتشرح للرأي العام مأساتها. وهكذا ظهر أن المغتصبة وُلدت في 1976، وتعمل مرشدة دينية في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. اشترت قطعة أرض وقصدت البرلماني لحل مشكل يتصل بالأرض التي اشترتها. اغتصبت في 2010 وصرحت بالواقعة بعد أشهر من وقوعها. وتعذر عليها تقديم شهادة طبية تثبت الضرر الجسماني. وقالت بفخر ان البرلماني اتصل بها هاتفيا أكثر من 280 مرة، وأن الاغتصاب جرى في فيلا. في آخر تصريح لها قالت «في البداية استدرجني واغتصبني، وفي المرة الثانية وعدني بأنه سيتزوجني، وأنا صدقته». وقد اتضح حسابيا أن الحمل لم يحصل عند الاغتصاب الأول.
من جديد، عادت الصحافة للموضوع. قارن الاعلامي الشهير رشيد نيني بين حالة الموظفة وحالة نافيساتو ديالو التي اغتصبها رئيس البنك الدولي في حينه، دومينيك ستروس كان. كما تذكر آخرون أن جوليان أسانج صاحب موقع ويكيليكس اتهم بالاغتصاب، وبعد أن ألغيت مذكرة الاتهام بحقه في 2010، جُددت فبدا انه انتقام سياسي. وقد صرحت ضحيته بأنها دعت أسانج لبيتها وضاجعها مرات عدة ثم اغتصبها. ومؤخرا اتهمت هيفاء خليجيا بمحاولة اغتصابها. أين؟ على يخته. واضح استخدام الجنس وسيلة لتصفية حسابات سياسية أو شخصية.
في قصتنا هذه تدافع الحركة النسوية عن امرأة وقعت لها مغامرتها وهي في سن الثالثة والثلاثين، ويفترض أنها مسؤولة عن أفعالها. لقد تلقت الموظفة وعدا كاذبا بالزواج. لن تكون الأخيرة. لو طبقت عقوبة الحبس على الكذب أين سيكون كل السياسيين؟
حملتها هدفها الحصول على زوج غني أو على تعويض. تسعى لنيل ما انتحرت بسبب فرضه عليها الشابة أمينة الفلالي. تطالب النساء بالمساواة كحق، ولا يردن ما يترتب عنها: المسؤولية وتحمل تبعات الاختيارات. لذا تطالب الضحية بأن تعامل كقاصر في المحكمة. أما خارجها، بل على بابها، فتعتبر نفسها راشدة متحررة. وحين تتاح لها الفرصة تقتنص فوائد اللعب على حبلين: في صف انتظار أمام شباك بنكي، كان هناك ستة رجال ينتظرون لسحب النقود. جاءت شابة ووقفت في الصف. بعد دقائق استأذنت لتسحب نقودها قبل الآخرين. أشار لها كهْل بأن تتفضل، وتبادَل الآخرون النظرات ولم يعلقوا، لكن الواضح أن الشبان غير راضين. لم تطالب الشابة بالمساواة بل بالاستثناء. وقد حصلت على العطف والشفقة اللذين يليقان بها كمدللة أو كضعيفة. وهذه قطعاً ليست من صفات الأحرار.