الصورة السلبية للمدرسة في المغرب تطفئ العطش المعرفي

نادرا ما يغادر موضوع التعليم الصفحات الأولى للجرائد المغربية، إذ بعد توصيف ولعن أشكال الغش في البكالوريا، ظهرت النتائج، فاتضح أن هناك غشا آخر لا يمس سلوك التلاميذ، بل هو غش مؤسسي يمس مقاييس العلامات. فمن خلال مقارنة بيانات العلامات بين تلاميذ التعليم في الرسمي والخصوصي، ظهر خلل ترتب عنه عدم تساوي فرص النجاح. توجد فروق كبيرة بين علامات الفصل الدراسي وعلامات الامتحان لدى تلاميذ الخصوصي.
2012-09-05

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك

نادرا ما يغادر موضوع التعليم الصفحات الأولى للجرائد المغربية، إذ بعد توصيف ولعن أشكال الغش في البكالوريا، ظهرت النتائج، فاتضح أن هناك غشا آخر لا يمس سلوك التلاميذ، بل هو غش مؤسسي يمس مقاييس العلامات. فمن خلال مقارنة بيانات العلامات بين تلاميذ التعليم في الرسمي والخصوصي، ظهر خلل ترتب عنه عدم تساوي فرص النجاح.
توجد فروق كبيرة بين علامات الفصل الدراسي وعلامات الامتحان لدى تلاميذ الخصوصي. لنلق نظرة على علامات تلميذ مغربي درس في مؤسسة ثانوية خصوصية وحصل على البكالوريا في تموز/يونيو 2012: في الامتحان الوطني حصل على 8 من 20 في الرياضيات، 10 في الفيزياء، 5 في العلوم الطبيعية، 8 في الفلسفة، و2 في اللغة الانجليزية. بينما علاماته في المراقبة المستمرة، أي الفصل الدراسي، كانت في نفس المواد على التوالي: 18-18-16-15-16.
تواترت مثل هذه النتائج، وأقر الملاحظون بارتفاع معدلات المراقبة المستمرة بالفصل بالمدارس الخصوصية مقابل تدنيها في نفس المواد بالامتحان الوطني. كان الفارق كبيرا جدا. ولو حصل هذا مع تلميذ أو تلميذين لكان مقبولا. أما أن نجد عشرات الحالات، فهذا يثير تساؤلات.
يبدو أن وراء الأمر حسن نية المشرّع التربوي. فقد قرر احتساب علامات المراقبة المستمرة في معدل النجاح في البكالوريا بنسبة 25 في المائة، بهدف إشراك الأستاذ في النتيجة العامة. وكان الهدف أيضا مكافأة التلاميذ الذين يواظبون على الإعداد الَقبْلي للدروس والتمارين. لكن في الحالة التي أمامنا، فإن نسبة المراقبة المستمرة من معدل النجاح تبلغ 75 في المائة. أي أن هذا التلميذ تم تنجيحه مسبقا بفضل معدلاته المدرسية وليس علامات الامتحان النهائي.
هنا، ارتفعت الاتهامات بأن المدارس الخصوصية تحسِّن بطريقة ملتوية فرص نجاح التلاميذ الذين يدرسون بها، وبالتالي تحسّن صورتها في المشهد العام بتضخيم علامات التلاميذ المنتسبين إليها، لأنهم يدفعون النقود. الزبون ملك لابد من الاستجابة لطلباته. الأمر لا يعود للامتحان الوطني إذن، بل لسلطة المال. رغم أن الذكاء لا يباع.
في خضم هذا الجدل خصص الملك محمد السادس جزءا كبيرا من خطابه يوم 20 آب/ أغسطس 2012 للمدرسة. وقد دعا لتأهيل التعليم الخاص، واتهم المدرسة المغربية بأنها لا تعتمد المنطق السليم، لا تصقل الحس النقدي ولا تفعِّل الذكاء بل يقتصر عملها على شحن الذاكرة ومراكمة المعارف بالتلقين. رحبت الصحافة بهذا التوصيف، واستدلت على صدقيته بالمشهد اليومي في المدن المغربية: آلاف من خريجي الجامعات العاطلين يحتجون، ليس لأنه لا يوجد عمل - فالصينيون يجدون عملا في المغرب - بل لأن تكوينهم لا يلائم فرص الشغل الموجودة. لقد لقنتهم المدرسة ليصيروا موظفين. لكن لسوق الشغل مطالب أخرى، وهم بدل أن يتغيروا ليلائموا سوق الشغل، يريدون من السوق أن يشبههم. وهم يحتجون ويريدون أن يعملوا في مكاتب وليس في حقول أو ورشات. وهي الأماكن التي يتقرر فيها شكل المستقبل. يمر الناس على أولئك المحتجين ويلعنون المدرسة التي لم تمهد لهم مستقبلا أفضل. لا يقتصر الأمر على اللعنة، بل يتعداها إلى أحكام سلبية ونكات ساخرة عن المدرسين.
يدافع العاملون بالتعليم عن أنفسهم بتبرئة المدرسة وتحميل المسؤولية للبيئة الاجتماعية المحيطة بسور المؤسسة التعليمية. في مباراة الولوج لمركز تكوين مفتشي التعليم (المراقبين التربويين) بداية تموز/ يوليو 2012، كان السؤال هو: "يعد الفضول المعرفي محركا لتعلم التلميذ، حيث يشجعه على طرح الأسئلة التي تشكل محاولة الإجابة عليها انخراطا في بناء المعرفة والذات معا. لكن هل تسمح ثقافتنا السائدة في أن يكون للمتعلم فضول معرفي، وهي تنظر إلى الرغبة في المعرفة بكونها مزعجة وخطرة؟"
يحدد السؤال بوضوح المتهم. إنه الثقافة السائدة التي تعتبر الفضول قلة أدب، وتشبه الفضولي بما يدخل بين اللحم والظفر (الأوساخ). لكن لا تعلّم دون فضول، دون رغبة. وقديما سخر مربّ يوناني ممن لا فضول له بقوله "لا يمكن أن تسقي حمارا لا يشعر بالعطش".
يولِّد الفضول ضرورة العطش المعرفي، يندهش الطفل أمام الوردة فيفككها، يفترض به أن يفعل ذلك بالكثير من الظواهر. وهكذا يولِّد الفضول الأسئلة، والسؤال في الثقافة السائدة وقاحة. يعاقب الطفل الذي يعري قلب الوردة. وتقمع الدهشة والسؤال. وهذه ظاهرة عامة، ففي الندوات الصحفية – إذا عقدت - يتجنب حكامنا الأسئلة المباشرة والعلنية. في تلفزيوناتنا، تكثر البرامج المسجلة وتقل البرامج الحية العفوية. إذن، الفضول قلة أدب، والشك سوء نية، وطرح الأسئلة وقاحة، ومراجعة الجاهز والشك المنهجي وعدم التسليم بالأجوبة الجاهزة جحود وتنكر للأجداد، والتفلسف يقود للجنون...
فلماذا تلام المدرسة التي يقضي فيها الطفل بضع ساعات يوميا؟
تعتبر الثقافة السائدة التفكير نوعا من الهم، وتمنع الجدات الأطفال من الجلوس ووضع أيديهم تحت خدودهم، لأن ذلك يجلب النحس. وهذه تحديداً هي الصورة النمطية التي تلتقط للمفكرين. وتذكرت إني أيام الدراسة كانوا يلقبونني "فيلسوف ضائع"، وتوقعت لي الفتاة التي أحببتها أن أجن قريبا، تعاقد معي أستاذ التربية الإسلامية في الثانوية ألاّ أحضر دروسه مقابل ألاّ يسجلني غائبا. وحين التقيته بعد خمس عشرة سنة، شرح لي أني كنت أشوش على التلاميذ. مع أن العثور على الأسئلة الصحيحة أصعب من العثور على الأجوبة. وطرح أسئلة متعددة يساعد على تكوين تفكير تركيبي. فبدون أسئلة سيكون الإنسان ذا بعد واحد... وسيشبه وحيد القرن!
لكن ما جدوى هذا التحريض على التساؤل، بينما يغادر التلميذ أسوار المؤسسة التعليمية فيجد بيئة تروج لصورة سلبية حول المدرسة، وتسودها أوهام نصبت كبديهيات. منها أنه لابد من إغلاق الجامعة لأنها سبب البطالة، ومنها أن المدرسة مكان يختفي فيه الأطفال لكي تتفرغ الأم لواجباتها المنزلية... وفي النهاية ينظر للطفل الذي لفظته المدرسة مبكرا كشخص محظوظ لأنه قد يتعلم حرفة (حسب دراسة رسمية، تلفظ المدرسة المغربية 400 الف طفل سنويا).
بسبب من كل هذا، يتكون لدى الطفل نمط تفكير سطحي بسيط يتبنى الآراء الشائعة وبادي الرأي الذي لا يصمد أمام التحليل والتجربة: هل إذا أغلقت الجامعة سيحصل الجميع على عمل؟ لا، لكن الناس صاروا يشفقون على كل من يلتحق بالجامعة. لأن وجهة النظر التحقيرية تسربت وترسخت في المخيال الشعبي ويتبناها الأطفال ويعيدون إنتاجها. وهكذا تجر البيئة المدرسة بدل أن يحصل العكس.

مقالات من المغرب

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

للكاتب نفسه