من نظرة واحدة من على هضبة على بُعد أربعة كيلومترات، تمنحك المدينة نفسها دفعة واحدة، جوهرة مكنونة في حضن البحر. تقترب الحافلة، يظهر عشاق التزحلق على الماء يستمتعون بريح قوية تنفخ في أشرعتهم...
تصل إلى المحطة الطرقية لمدينة الصويرة (موكادور بالبرتغالية)، تستقبلك نساء باللحاف يسألنك إن كنت بحاجة إلى سكن. نعم، تتبع إحداهن في الدروب الضيقة، تصل بك إلى منزل متواضع، تدخل، تجد الفراش مقبولاً، تدفع الثمن، تأخذ المفتاح، تغلق عليك الباب... هكذا أصبح لك منزل في رمشة عين، تستريح قليلاً، تقف لتطل على المطبخ والحمام، تستحم وتنام بضع ساعات، تستيقظ جائعاً، تتجه للشاطئ لتناول سمك مشوي في مطاعم الهواء الطلق.
تشبع وتلقي نظرة على ما يحيط بك، أسوار بقدم في الماء ومئات النوارس تحلق فتكاد تلمسها بيدك. تتجول في دروب ملتوية تحيط بك جدران بيضاء وأبواب زرقاء. تقف على تصميم هندسي عسكري يحيط بالسوق، من على الأسوار تنتصب المدافع متجهة نحو البحر من حيث يأتي العدو. العدو مرّ من هنا، في 1844 قصفت فرنسا المدينة عقاباً للمغاربة على دعمهم لمقاومة الأمير عبد القادر الجزائري. هكذا يكون للتجول في الصويرة بعدان متناغمان: في المكان والزمان. تتفرج على صناعة تقليدية متميزة، يجري فيها صقل خشب العرعار لصناعة علب وتماثيل. ويتم تطعيم لون الأكاجو بقلي خشب الليمون في الزيت للحصول على لون مدهش.
مهرجان موسيقى «كناوة» يتابعه أكثر من 400 ألف شخص سنوياً، أي أكثر من أربعة أضعاف سكان المدينة. مهرجان بعمق ثقافي إفريقي. على المنصات يتفرج الجمهور على فرق محترفة جل فنانيها سود البشرة. في الأزقة يعزف بائعو المصنوعات التقليدية على «الهجهوج»، وهو آلة وترية عبارة عن علبة خشبية مغطاة بجلد الماعز، يلعب العازف على الوتر وعلى الجلد المشدود فيصير «الهجهوج» طبلاً. الكناوة (بالمدة على الكاف لتصبح اقرب إلى الغين) موسيقى هجينة من نغم أمازيغي وأفريقي. يستخدم للرقص كما للمدائح النبوية في مواسم الزوايا والأضرحة.
تشترك الصويرة مع المدن العتيقة في خصائص كثيرة، مثل العمران والأسواق التقليدية حيث التوابل والمشغولات اليدوية التي يتعيّش منها صُناعها بينما ينظر لها السياح كتحف. لكن من بين كل المدن المغربية، للصويرة سحر خاص، وهي من الأمكنة الدالة، وليست مجرد فضاء على البحر. فللمغرب 3500 كلم من الشواطئ. وليس لكل المدن الشاطئية السحر نفسه.
لا يكمن سر قوة الصويرة في الجغرافيا، بل في التاريخ. فقد مر بها الفينيقيون والبرتغاليون، وهذه شعوب بحرية. سكنها اليهود والزنوج وقبائل عربية صارت أمازيغية. قبائل بني هلال التي أرسلها الفاطميون من الشرق لمعاقبة سُنّة المغرب، كما تحكي تغريبة بني هلال.
بدأ مجد الصويرة حين قرر السلطان محمد الثالث بناء الأسوار والمرسى سنة 1760 بغرض مكافحة التهريب الذي أفقر خزينة الدولة. وقد كانت المدينة صلة وصل بين شمال المغرب والسودان الغربي (السنغال ومالي الآن). للإشارة، منذ القرن الخامس عشر وجارا المغرب «الأيبيريان» (اسبانيا والبرتغال) يبحثان عن موطئ قدم في شواطئه لترويج سلعهما. وما زالت مدينة سبتة محتلة منذ 1415، وهي مصدر ثراء للتجار الأسبان بفضل التهريب. لذا دشن الملك محمد السادس ميناء طنجة على المتوسط في 2007 لإضعاف التهريب في سبتة. فالماضي أشبه من الآتي شبَه الماء بالماء كما يقول ابن خلدون في مقدمته.
لقد أسس محمد الثالث مدينة الصويرة لتجميع التجارة الخارجية للمغرب في مرسى واحد تحت سيطرته المباشرة، مرسى يعمل فيه تجار السلطان. وقد استقرّ بها اليهود بكثافة وصنعوا مجدها. كان يهودها أكثر من مسلميها.
حظيت المدينة بشهرة دولية، كتب عنها الرحالة شارل دوفوكو وصوّر فيها أورسن ويلز فيلمه الشهير «عطيل». وعادة ما يأتيها أمير موناكو ويتجول فيها بسيارة طولها ستة عشر متراً...
في السبعينيات من القرن الماضي كانت عاصمة للبوهيميين المغاربة والعالميين، حيث الموسيقى الأفريقية والحشيش ونساء بجمال مختلف، جمال خلاسي به دم عربي وأمازيغي وأفريقي. في السبعينيات كان عشرات آلاف اليهود قد هاجروا لفلسطين المحتلة. وكان الملك الحسن الثاني يفتخر أن لديه أكبر حزب في إسرائيل، حوالي 600 ألف يهودي من أصل مغربي!
تعرف المدينة انفتاحاً ثقافياً تفتقده مدينتا مراكش وفاس، عاصمتا المملكة. وهكذا صار للصويرة بحسها المتسامح بعد دولي. حين أتجول في الصويرة، أتأمل الخيارات التي تقدمها المدن. في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان المغرب أمام خيارين، مدينة مغلقة ومدينة مفتوحة.
من جهة، مدينة منكفئة على ذاتها تعتمد على الزراعة وتجارة القوافل، ومن جهة ثانية مدينة شاطئية ذات أفق مفتوح على العالم تَعد بمغرب مختلف.
في الصراع بين مدن البحر المتفتحة ومدن الداخل المنغلقة المحافظة، انتصرت مراكش وفاس على المدن الكوسموبوليتية الهجينة مثل الصويرة وطنجة. وهكذا هُمش البحر ومدن الأفق المفتوح، لأن المغاربة شعب بري، ينكفئون للداخل، كثيرون منهم لا يتناولون السمك.
حين جاء الاستعمار بنى مدناً شاطئية لتنافس وتضعف المدن التقليدية. الآن صارت الدار البيضاء هي وجه المغرب، وهي مدينة ريفية في جوهرها، حصلت على مرتبة مشرِّفة في القذارة (حسب تقرير أنجزته صحيفة «الايكونوميست» البريطانية). قريباً سيسير فيها الترامواي بجانب حفر ترعى فيها نعاج ويجر بها حمار عربة تجميع بقايا الكارتون من حاويات الزبالة... في البيضاء العملاقة بشاعة لا تطاق، وهذا يُخلد سحر الصويرة.
* سينمائي وصحافي من المغرب