مــن أيــن جــاء غشـــاش الـثـانــويــة العـامــة؟

حظيت امتحانات البكالوريا في المغرب منتصف حزيران/يونيو 2012 بمتابعة إعلامية مكثفة، وقد تزامن ذلك مع وجود وزير يتوفر على حس تدبيري عال وقدرة كبيرة على التواصل. وهو أعلن حربا على الغش في الامتحانات، فأدخل الشرطة إلى الثانويات، ومنع إدخال الهواتف المحمولة والحواسيب إلى مراكز الامتحانات.خطابيا، تم التذكير بالحكمة التحريضية «عند الامتحان يكرم المرء أو يهان». في جلسة الحكومة،
2012-07-25

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك

حظيت امتحانات البكالوريا في المغرب منتصف حزيران/يونيو 2012 بمتابعة إعلامية مكثفة، وقد تزامن ذلك مع وجود وزير يتوفر على حس تدبيري عال وقدرة كبيرة على التواصل. وهو أعلن حربا على الغش في الامتحانات، فأدخل الشرطة إلى الثانويات، ومنع إدخال الهواتف المحمولة والحواسيب إلى مراكز الامتحانات.
خطابيا، تم التذكير بالحكمة التحريضية «عند الامتحان يكرم المرء أو يهان». في جلسة الحكومة، خاطب رئيس الوزراء الغشاشين، وذكَّر بصيغة غير متداولة للحديث النبوي: «من غش فليس منا»!
تأكد من اليوم الأول أن مرشحين تمكنوا من تسريب أسئلة الاختبارات على الفايسبوك. ضبط آخرون مسلحين بـ «الحروز»، (وأصل «الحرز» صفحة 29 سنتيمتراً X 21، تم تصغيرها بآلة ناسخة ليصير طولها خمسة سنتميترات وعرضها ثلاثة). غالبا ما ينتزع المراقب الحرز من الغشاش من دون تحرير محضر غش يترتب عنه توقيفه. بفعله ذاك، يَعتبر المراقب أن الغش يمس بتساوي الفرص، بينما يفترض الغشاش أن التلاميذ في الفصول الأخرى يغشون أيضا، ويطالب بحقه في المساواة معهم. مع إيمانه بهذا، يرتكب الغشاش حماقته بكامل الجدية لأنه واثق بأن الغش مكسب لا تنازل عنه.
النتيجة: انقلبت المعايير.
من يُضبط في حالة غش لا يعتبر نفسه على خطأ، بل يلوم من ضبطه. يتوقع أن يخجل المراقب لا الغشاش. عادة يميز التلاميذ بين المراقب الطيب والمراقب الشرير...الذي يطبق القانون. يرونه «مسموماً» وحقوداً، وهو يعاقب بعنف لفظي أو جسدي. والنتيجة، بسبب خوفه على سلامته البدنية، يتظاهر المراقب أنه أعور.
بفضل عادة الإفلات من العقاب، تزداد ثقة الغشاشين بحقهم، يرفعون شعار «من نقل انتقل، ومن اعتمد على نفسه بقي في القسم»، ويعددون فوائد الغش، ومنها تقوية عضلتي العين والسمع، ونشر روح التعاون، وفي النهاية إسعاد الوالدين بالنجاح. واضح أن الوالدين تهمهما النتيجة بغض النظر عن الوسيلة.
بعد الامتحان، أعلن وزير التعليم ضبط 1390 حالة غش على المستوى الوطني٬ بل جرى اعتقال ممتحنين... فبعضهم هدد السلامة البدنية للأساتذة المراقبين. بعد أسبوع نسي الموضوع واحتلت مواضيع أخرى عناوين وسائل الإعلام.
الآن، وقد برد إبريق الغش، سنفتحه لنرى لماذا لا يغلي إلا خلال ثلاثة أيام الامتحانات، ثم يبرد 362 يوم في السنة، متحررين من موسمية عناوين وسائل الإعلام، لطرح أسئلة غير موسمية من قبيل: كيف نبت منطق الغش؟ كيف لمجتمع يفكر شبانه هكذا أن يحارب الفساد؟ ما هي ميكانيزمات إعادة إنتاج الفساد من قمة هرم السلطة حتى التلميذ في المدرسة؟
يتضح أن الغش، بالكثافة التي يجري بها، ليس قضية موسمية. طفلاً كنت أرى أمي تغير ثمن السلع التي تشتريها لتوفر النقود لشراء الأثاث، بينما أبي يعتقد أنه يجب أن نشتري الأكل فقط. يطبق الطفل نصيحة والده ويقول للطارق «بابا غير موجود». في البداية، يندهش الطفل، ثم يعيد إنتاج ذلك، يتمرن، يكذب لينجو. يجري التطبيع مع الغش منذ الصغر، خاصة عندما يقصد الأب الأستاذ ويطلب منه «مساعدة ابنه». وتدعو له أمه «الله يرزقك من يقف معك». شركة إعلان استثمرت الفكرة: «هاتف سيقف معك»! من يتعود على هذا يجد صعوبة ليجتهد، خاصة أن تحصيل المعرفة والفهم يكلف الجهد والمال. حين ينشأ الطفل والتلميذ في بيئة تعرف الغش في السكر والزيت، ثم يلام وحده على الغش، لا يتأثر، بل يتوقع الغفران. شباب يتربون مع الحديث عن الغش في البناء الذي يسقط عمارات، وعن تسمم الناس بسبب الغش في المواد الغذائية.
حاليا، يتظاهر الشبان في شوارع الرباط لأن رئيس الوزراء اقر 10133 منصبا في الوظيفة العمومية واشترط اجتياز مباراة. غير أن العاطلين من حملة الشهادات الجامعية يخشون المنافسة. وكانوا قبل أشهر يطالبون بإسقاط الفساد. طيب، إذا سقط الفساد ماذا سيحل محله؟ شفافية المنافسة.
تحدث رئيس الوزراء عن الغش، وقد بثت التلفزة الرسمية تصريحاته. وبعدها لاحظ أن التلفزة بثت فقط الفقرة الخاصة بحديثه عن غش التلاميذ الصغار، بينما حذفت حديثه عن غش الكبار. في البرلمان، ندد نواب المعارضة بالغش في الامتحانات، فنفى وزير التعليم بجدية أن يكون الغش قد ظهر في عهده، وأكد أن الغش قديم. كانت تلك رسالة، وتلميحا عميقا لتهم الفساد المتبادلة في المجلس...ما العمل حين يصرّ الزناة على رجم الزانية؟ يمارسون السياسة «كفهلوة»، والفهلوة هي تجنب تطبيق القانون، وكلهم يرفعون شعار «لا للفساد». فمن الفاسد؟ الجواب: إما الجميع وإما لا أحد.
هذا الوضع ناتج عن ضمور الطاقة الأخلاقية التي تميز الشرفاء عن السماسرة، لذا تهيمن الميكيافيلية والنزعة السينيكية. نزعة الفلول الذين تعودوا الصيد في الماء العكر ويناضلون كي لا يصفو المشهد السياسي. لا يريدون السباحة في ماء نقي.
الحلول؟ يقترحون وقف الإنجاح واعتماد الاستحقاق، وكاميرات مراقبة أو تزويد مراكز الامتحانات بأجهزة تشويش على كل المكالمات والرسائل القصيرة، وإدخال الامن الى المدارس. يقترحون حلا بوليسيا يُرفض في مجالات أخرى. لكن أليس الحل في التمييز بين أسئلة الحفظ والفهم؟ فعندما يكون السؤال مختلفا يرتبك الغشاش: سؤال الفلسفة هذا العام كان «لمَ الدولة؟».
يراهن الغشاش على النسيان. فبعد الانتخابات، لا يُطرح سؤال من غش؟ يُسأل فقط من نجح؟ وهكذا، حين تكون المحاسبة موسمية، يشك الناس في العدالة.

مقالات من المغرب

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

للكاتب نفسه