المسلسلات التركية تملأ وقت فراغ النساء والرجال

الماء في الصنبور، الخبز في المخبزة، الأطفال في الحضانة أو المدرسة، الغسالة تنظف الملابس، الرجل في العمل أو المقهى، الثلاجة تحتفظ بالأكل لأيام... صار لدى ربة البيت وقت فراغ زائد. في بداية القرن الماضي، رفعت الحركة العمالية شعار ثماني ساعات للعمل، وثمان للنوم، وثمان للتسلية. في كل مرة يثار نقاش حول المسلسلات التركية في "هسبريس"، الموقع الإلكتروني الرئيسي في المغرب، تظهر مئات التعليقات.
2012-07-30

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك

الماء في الصنبور، الخبز في المخبزة، الأطفال في الحضانة أو المدرسة، الغسالة تنظف الملابس، الرجل في العمل أو المقهى، الثلاجة تحتفظ بالأكل لأيام... صار لدى ربة البيت وقت فراغ زائد. في بداية القرن الماضي، رفعت الحركة العمالية شعار ثماني ساعات للعمل، وثمان للنوم، وثمان للتسلية. في كل مرة يثار نقاش حول المسلسلات التركية في "هسبريس"، الموقع الإلكتروني الرئيسي في المغرب، تظهر مئات التعليقات. هذا ملخصها:
ضللت هذه المسلسلات الملعونة بنات وأبناء هذا الوطن بالتفاهات والانحلال الاخلاقي... تسببت في تكاثر الخيانة الزوجية وجرائم القتل المترتبة عنها... هدَّامة للأعراف والأصول والدين. لولا المسلسلات المكسيكية والتركية لكانت نساء المجتمع محافظات على الأخلاق، محتشمات، ولكانت المراهقات مؤدبات خجولات ولظهر ذلك في لباسهن وسلوكهن وخدودهن... المسلسلات التي تتحدث عن الحب والعلاقات غير الشرعية خارج مؤسسات الزواج، وتظهر العشق كفضيلة، وتبادل القبل كدليل على التحرر... تدمر العفة. مع تكرار تلك الصور، تذوب قلوب العذارى وهن يتفرجن على ذلك التسويق الرومانسي "للرذيلة"، فيعملن على تقليدها. لذا يندر أن يجد الرجل شابة لم تعش علاقة غرامية ليتزوج بها، وبذلك يقل الزواج فتضيع الدنيا والدين! الحل هو وقف عرض تلك المسلسلات على قنوات التلفزيون المغربي. وبذلك ستتماسك العلاقات الأسرية في المجتمع ويقل الفساد الجنسي وتعم الفضيلة والحياء.

هذه هي المرافعة الرئيسية ضد إدارة التلفزيون المغربي التي تعرض أفلام يطلبها الجمهور بكثافة. إذ رغم المطالب بتعددية الرأي في التلفزيون، فإن الاتجاه العام يحمِّل التلفزة مسؤولية الفساد الأخلاقي. من ينتقد المسلسلات التلفزيونية ويقرأ "ست دقائق فقط في العام"، ويفتخر بأنه يفهم. كيف يقضي وقته؟
لكن مع الجدل، ورغماً عنه، يستمر عرض الأفلام. لماذا؟

1. في 2012 سيتكرس خروج مصر وسوريا من الشاشة، ومن النفوذ الاستراتيجي لمصلحة تركيا!
2. تبين حقيقة أزمة المسلسلات المصرية التي فقدت طاقتها الإبداعية على تقديم قصص إنسانية معقدة، ذات عمق نفسي، من خلال إيقاع مرتفع ومشوق.
3. تكشف سوسيولوجيا التلقي. فالمشاعر القوية تشد الجمهور النسوي، ومتفرج المرحلة له أفق كوني، يتفرج ويقارن، ويصعب إرضاؤه بمقادير وصفات فنية مغرقة في المحلية.
4. النساء أكثر استهلاكا للحكايات، شفويةً ومصورة. بل هن أكثر إنتاجا للحكي، خاصة الجدات بعد تفرغهن.
5. كل من يفكر مهموم. هذه هي المعادلة التي تروج لها الثقافة الشعبية. فالتفكير يحرق الكثير من البروتينات. ويتم ربط التفكير والنحول بالهم. لذا تنجح المسلسلات التي تشاهَد بسهولة لا تتطلب جهدا من المشاهد.
6. شاب متدين جداً تزوج حديثا، اكتشف أن زوجته تدمن المسلسلات، يفكر في الطلاق مخافة أن يتربى أبناؤه على نمط عيش فاطمة وخلود وكريم.
7. اشتكى زميل يساري لي من أن زوجته، وهي متخرجة جامعية، لا تعرف ماركس وتجن بالمسلسلات المكسكية. وقد زعم أنه يعاني وجود تيار رجعي في منزله.
8. تجري عولمة المضامين في المسلسلات، ما يؤدي لتآكل استهلاك المنتوج المغرق في المحلية.
9. هذه المسلسلات هي سياحة مجانية للذين لا يملكن النقود للسفر... تعرِّف بأنماط عيش محتلفة.
10. المسلسلات هي نافذة للهروب من الواقع الرتيب والمحسوم، توفر للمتفرج هوية متخيّلة تحرره من الهوية التي يعيش بها.
11. مع تزايد نفوذ النساء، ديموغرافيا واقتصاديا، آن الأوان ليراجع الرأي الذكوري المهيمن نفسه. سيفعل ذلك ببطء ومكرها.
12. لا يحق لمن لا يشرب القهوة أن يطالب بمنعها. وكذلك المسلسلات: تسعِد النساء، تعلمهم نمط عيش، تقرب اليومي من المثالي، تملأ وقت فراغهن، تسليهن.
13. تقول حماتي حين أنتقد إدمانها على المسلسلات: ماذا سأفعل إن لم أتفرج؟
14. حملة المحافظين ضد المسلسلات وصاية على ذوق النساء.
15. المسلسلات تمتع النساء، وتزعج الفقهاء، وتسعد الحكام لأن المسلسلات تلهي الشعب بالحب.
16. يقول كلود ليفي ستراوس ان الثقافات البدائية تعتبر التفكير نوعا من الهم. ولا يمكن بيع الهم في التلفزيون.
17. في أوج الربيع العربي والروح الثورية، لم تتراجع متابعة المسلسلات التركية، ما دل على أنها تستجيب لحاجة معينة.
18. يحتاج البشر يوميا لجرعات من بالأحلام والرغبات والشهوات، وتعمل الأفلام والمسلسلات على تقديمها لهم.
19. اقتصاديا، تروج لوجوه وسيمة ذات شحنة عاطفية عالية لاستدرار الشفقة وتنشيط بيع أدمغة المتفرجين لشركات الإعلان.
20. إضعاف الإعلام السياسي التحريضي، ومكافحة التسييس الشديد الذي ينتج عن إدمان قناة الجزيرة.
21. يطمئن العشاق الى أن الانفصال موقت والمصالحة أكيدة مهما طال الزمن. والزمن لا يغير الحب. حتى الأثر البيولوجي ضعيف لذا لا يشيخ العشاق. (كما في مسلسل ندى العمر).
22. يجري التصوير في فضاءات تحرض على الحلم. تصوير يقدم خدمة ثمينة للسياحة التركية. الدليل هو مضاعفة عدد السياح الخليجيين الذين زاروا إسطنبول.
23. التأكيد أن قيم الخير لم تمت، لذا نرى النُبل، الجمال الاستثنائي، العفة، المفاجأة، اللقاء، الحب، اعتراض الآباء، عواطف جياشة لا تبرد (كما في مسلسل "سيلا"، حيث يحترم الناس الأعراف ويموتون من اجلها).
24. لا توجد خيانة في الرومانسية. يرجع الأحبة لبعضهم مهما فعل الأشرار الذين ينهزمون في النهاية.
25. في كل المسلسلات يوجد اختبار للعواطف، حيث نجد رجلين يتقاتلان على حب امرأة. "في أنت أو لا أحد"، يتعارك ماكسيميليانو وأنطونيو على راكيل. في "غوادالوبي" يتعارك ألفريدو ورجل الأعمال على العرجاء غودالوبي. "في أين أبي؟" يتعارك الطبيب ورجل الاعمال على مارغرايتا. في "إيزيل" يتعارك إيزيل وجانكيز على عائشة، في "عاصي" يتعارك أمير وعلي على الشابة عاصي، في "دموع الورد" يتعارك عمار الفقير وأيمن المليونير على نيرمين، وفيه ماتت البطلة خطأ فبكت المتفرجات. نرى هنا تكرارا لجوهر الإلياذة لهوميروس، حيث يتقاتل باريس ومينلاوس من أجل هيلانة. وقد أدى ذلك لخراب مدينة طروادة.
26. واضح أن قصص "التيلينوفيلا" تُكتب بعد دراسة جدوى، لمنتجيها وعارضيها أيضا. فهي مسلسلات بلا محتوى سوسيو – سياسي. مهند لا يهمه سعر الطماطم واللحمة. هدف مهند الوحيد هو استعادة الحب الأول. هذا النوع من المسلسلات مريح للأنظمة السياسية الهشة، التي تخاف الإعلام السياسي التحريضي.

مقالات من المغرب

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

الحرّية للصحافيين والسّجن للصحافة

الصّحافيون الثلاثة الأشهر الذين أُفرج عنهم، أُدخلوا السّجن بتهم جنسية، لا بتهم متعلقة بحرّية الصّحافة أو الرأي، كما هو الواقع. وهي استراتيجية مباشِرة إلى درجة تثير السخرية، لكنها أيضاً لئيمة...

للكاتب نفسه