دور الوسيط في النسق السياسي المغربي

في العاشر من آب/اغسطس، قال عبد الإله بن كيران: "إنني لا أملك إلا أن أعتذر لجلالة الملك عن أي إساءة غير مقصودة أكون قد تسببت فيها، ومن خلاله لمستشاريه المحترمين". رئيس الوزراء المغربي فعل بعدما نشرت جريدة "الصباح" تصريحا سابقا له قال فيه أنه لا تواصل بينه وبين مستشاري الملك. الجميع فهم أن الأمر يتعلق بفؤاد عالي الهمة، وزير الداخلية الأسبق وصديق الملك والذي صار مستشاره رسميا بعد تعيين بنكيران وزيرا
2012-08-22

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
عادة تقبيل يد الملك في طريقها إلى الزوال (من الانترنت)

في العاشر من آب/اغسطس، قال عبد الإله بن كيران: "إنني لا أملك إلا أن أعتذر لجلالة الملك عن أي إساءة غير مقصودة أكون قد تسببت فيها، ومن خلاله لمستشاريه المحترمين". رئيس الوزراء المغربي فعل بعدما نشرت جريدة "الصباح" تصريحا سابقا له قال فيه أنه لا تواصل بينه وبين مستشاري الملك. الجميع فهم أن الأمر يتعلق بفؤاد عالي الهمة، وزير الداخلية الأسبق وصديق الملك والذي صار مستشاره رسميا بعد تعيين بنكيران وزيرا أولاً بحكم فوز حزب العدالة والتنمية في انتخابات 25 تشرين الثاني/ نوفمبر 2011.
وهذا أول اعتذار من نوعه، وأول خروج لتوتر العلاقة للعلن. بنكيران كان قد خصص الساعتين اللتين استضافه فيهما أحمد منصور على قناة الجزيرة منتصف تموز/يوليو الفائت لتأكيد جودة علاقته بالملك. للإشارة، وفور تعيينه رئيسا للوزراء، صرح بنكيران أنه لا يريد وسطاء بينه وبين الملك. لكن الوسيط موجود، وهو ضرورة في النسق السياسي المغربي. إنه منطق الملَكية التنفيذية. ولهذا المشكل سوابق. ففي 1994، دعا الحسن الثاني قائد حزب الاستقلال لتشكيل حكومة التناوب، فطلب محمد بوستَّة إقالة وزير الداخلية إدريس البصري "كي لا يتصارع معه"، فرد الملك على بوستَّة: "وهل تريد أن تتصارع معي؟".
الوسيط قفاز يتصارع به الملك، الذي يتجنب إقحام نفسه مباشرة في الصراع. وهذا درس تعلمه الحسن الثاني مبكرا، في 1960. حينها عين الملك محمد الخامس ولي عهده في منصب الوزير الأول. يقول الحسن الثاني على ذلك التعيين: "كانت هذه التجربة بالنسبة إلي بمثابة مدرسة استثنائية... وبالطبع لم يرقْ ذلك الجميع، بل هناك من اعتبر أن الملك أقحم نفسه مباشرة في تصريف الأمور عن طريق ولده، وأعتقد أن هذه التجربة كانت تبدو له ضرورية ـ وكان محقا في ذلك ـ لأنها مكنته وبسرعة من استكناه مواطن ضعفي ومواطن قوتي" (في كتابه "ذاكرة ملك" ص 25 ). وقد استفاد الحسن الثاني من ذلك وترك نفسه وولي عهده لاحقا (محمد السادس) بعيدا عن تصريف الأمور المباشرة. وقد أوكل الأمر لوسيط يفاوض باسم الملك، فمن أراد أن يصغي له الملك يجب أن يصغي لرجله في الميدان، ومن لم يفعل فهو "سخيف" كما قال رضا اكديرة، صديق الحسن الثاني للفريق الحكومي عام 1960.
من المستحسن ألا يخرج هذا من فم الملك مباشرة، من المفيد أن يقوله صديقه، وقد فعل. وقد شكل أحزابا وصنع أغلبية من الأعيان لتقزيم المعارضة. هذه قواعد اللعبة، ففي رقعة الشطرنج، يجب أن يكون الملك محميا جيدا، يرسل البيادق والقطع من قلاع وفيل وأحصنة لتضرب، لكنه لا يضرب بنفسه، وذلك ليحافظ على ميزة وموقع الحكم. حركة كل القطع في الرقعة أسهل وأقل كلفة من حركة الملك. ثم إن بيدقا محميا جيدا، أقوى من حصان أو فيل الخصم.
لماذا؟ لسببين. الأول، لأن موقع الملك في رقعة الصراع متميز، فيجب أن يراقب ويظل بعيدا. إنه حكم بين أتباعه وخصومهم. هذه ضرورات النسق حتى لو كان الملك شابا يرغب حقيقة في الإصلاح السياسي. لكن هؤلاء الأتباع، أي خدام الأعتاب الشريفة، يعارضون أحياناً. يعارضون الدمقرطة مخافة خسران امتيازاتهم. وهذا ما حصل أثناء المفاوضات لتغيير الدستور وإشراك الكتلة الديمقراطية في الحكم أواسط التسعينات، لهذا فشل التناوب، ولهذا تم الخروج عن "المنهجية الديمقراطية". وهذه الاعتراضات، يقول عبد الله العروي، هي التي "تقلل من حظوظ تطبيق البرنامج الذي يحتم على آلاف خدام الأعتاب الشريفة إما الانضمام بسرعة إلى الكتلة (حينها) وإما الانتحار بحكم شرعية تاريخية مصادرة" (من "خواطر الصباح حجرة في العنق" ص155 ).
خدام الأعتاب الشرفاء العريقون لا يريدون أن يتساووا فجأة مع الرعاع والجياع أمام صناديق الاقتراع. حينها يصبح الوسيط طرفا. ينكشف وجهه. يصارع ويصير الرجل القوي. وهذا حال الصديق رضا اكديرة في الستينات، والصهر أحمد عصمان في السبعينات، والوزير المخلص إدريس البصري في الثمانينات والتسعينات. وأما السبب الثاني، فهو طول مدة حكم الملك. فالعمر الافتراضي لرجل السياسة هو عشر سنوات، ومن يلاحظ كيف أصبح وجها بيل كلينتون وتوني بلير بعد خروجهما من مواقع المسؤولية يدرك عبء القيام بالفعل بالحكم، لذا لا يستطيع حاكم أن يتولى ويتابع كل الملفات بنفسه أربعين سنة، وقد قال نيكولا ساركوزي أنه لو لم يجعل زوجته سيسيليا مساعدة له لما أمكن له أن يراها...
بسبب هذه المصاعب يبدأ الحاكم بتفويت الملفات والمهام ويكتفي بالتوقيع، كان حسني مبارك يقيم في شرم الشيخ وابنه يختار الوزراء من جمعيته. إن العمل السياسي مرهق ويدمر الحياة الشخصية، وليس صدفة أن يسيطر صديق للحسن الثاني كل عشر سنوات، يشكل الأحزاب ويفككها، ينظم الانتخابات ويعلن النتائج ويخرج الحكومات من بطن الحزب السري، يشتري منابر الإعلام، بل ويدجن جل قادة المعارضة... حتى ذكر بلاغ للقصر الملكي في 11 كانون الثاني/ يناير 1995 أن المس بالبصري مس بالمقدسات. وكذلك أن يظهر حزب الصديق فؤاد عالي الهمة بعد تسع سنوات من حكم محمد السادس.
ضرورة احتجاب الملك وصعوبة متابعة كل تفاصيل الحكم تجعل ظهور الوسيط مسألة ملحة، وهذا الإلحاح أقوى من تخيلات أولئك الذين يحللون ما ينبغي أن يكون بدل "تتبع الحقيقة الفعلية" كما يقول ماكيافيلي. موقع الرجل القوي بنته التجربة وليس التحليل العقلي، لأن توزيع السلطات مبني على توازن القوى، قوة ونفوذ خدَّام الأعتاب الشريفة أكبر من قوة ملايين العوام الفقراء غير المتعلمين. ظاهرة الرجل القوي قديمة في المغرب، فحجّاب الملك المسيطرون أمر متواتر، وأشهر نموذج هو أحمد بن موسى 1840-1900 المشهور بـ"باحماد". كان رجل المخزن القوي في عهد الحسن الأول 1873-1894 وما بعده، استفاد من ظروف استثنائية ليحقق هيمنة على الحياة السياسية والاجتماعية في مغرب نهاية القرن التاسع عشر. اتصف باحماد بالعبادة والدهاء والماكيافيلية والتكتم والمهارة في استغلال التنافس بين القبائل والتنظيمات الدينية. كوّن سلطة عبر شبكة من الزبائن شملت العمال والتجار والباشوات، واعتمد على أوثق أصدقائه في وزارات الشكاية والمالية والخارجية. تبين هذه التجربة أن سطوة الرجل القوي في مؤسسة المخزن ليس جديدا، فالموقع إذن جزء "من أعرافنا وتقاليدنا"...
كان من المنتظر أن يغير الانتقال الديمقراطي والتناوب التوافقي هذه الوضعية. لم يحصل ذلك، وهكذا، وبعد أربعة أشهر على مقاطعة ثلثي المغاربة لانتخابات أيلول/سبتمبر 2007، تجددت الشكاوى من تراجع مساهمة النخب الوطنية بمختلف مشاربها ومواقعها، إزاء مهمات تأطير المواطنين وتعبئتهم وإشراكهم في صياغة حاضرهم ومستقبلهم. جاء الحل كالعادة من خارج الإصلاح الدستوري الحقيقي. أدرك المخزن أنه بحاجة إلى حزب خصوصي يثبت التفاف الشعب حول اختيارات السلطة. والنتيجة أنه في أقل من ستة أشهر على تشكيل "حركة لكل الديمقراطيين" بقيادة فؤاد عالي الهمة، ولد من رحمها حزب اكتسح الانتخابات التشريعية في 2009 وهيمن على الحياة السياسية. وهو يطوع النخبة عبر معاقبة المتمردين وتوفير مواقع للودودين الذين يقبلون أن يتم تسييرهم عن بعد، بالريموت كونترول، وكان يستعد للسيطرة لسنوات قادمة.
لكن لم يتوقع أحد الربيع العربي/الأمازيغي الذي كشف أن الوسيط القوي ليس شعبيا تماما، بل وجاء بالإسلاميين للحكومة. وهؤلاء يريدون السلطة، في يدهم لا في يد الوسيط. إنه مكر التاريخ، ومكر السلطة، لأن الدستور الفضفاض لم يحسم. والمنتظر أن يتقرر الأمر من خلال توازنات القوى. ولذا فقد نُظر لاعتذار رئيس الوزراء للملك كتنازل.

مقالات من المغرب

المغرب... مَن أثقلَ جيوب العيد؟

يبدو المشهد مثاليّاً، ولا شيء ينغصّه. فالملابس جديدة، والوجوه هانئة، كأن الحياة بهية والجو بديع. بل تتلوّن الجلابيب أكثر كل سنة، وتبدو أغلى تكلفة وأرفع جودة. فهل صار المغاربة أغنى،...

للكاتب نفسه